كتاب الغصن الذهبي
أصبح كتاب «الغصن الذهبي» من الكتب التي يجب أن تُقْتَنَى وتُدَرَّسَ كما تُقْتَنَى الكتب القديمة؛ فإنه يعالج موضوعًا توشك مادته أن تزول من الدنيا فلا يبقى لها أثر يستطيع الإنسان أن يرجع إليه ويحقق أصوله وفروعه، وذلك أن موضوعه يتناول عادات المتوحشين في أنحاء العالم وعقائدهم وما يمارسونه من السحر والرقى والعبادات، وما يلتزمونه من عادات في الزواج أو الولادة أو الوفاة أو الزرع أو غير ذلك، وهؤلاء المتوحشون تغيرهم الحضارة الحديثة وتنسيهم توحشهم؛ فإن حكومة السودان مثلًا قد منعت ملكًا من أن تقتله رعيته مع أن الرجل كان راضيًا بالقتل يطلبه لأنه شاخ وخشي أن تزول عن رعيته البركات بشيخوخته، والحكومة البريطانية قد منعت في الهند إحراق الأرملة، والنهضة الصينية الحديثة تمحو عادات الجدود وتحطم الأصنام، والحكومة الأمريكية في فيليبين تحارب زعماء القبائل الذين يخرجون في قتل الناس لجمع الجماجم، ثم هناك هذا الانقراض الذي يصيب القبائل المتوحشة أو البدائية إذا احتكت بالمتمدنين.
وقد كان هذا التطور في حياة المتوحشين أو هذا الانقراض على أقصاه في السنين الماضية، ولكن شاء الحظ الحسن لجميع من يحبون الثقافة أن يرصد رجل إنجليزي حياته منذ الشباب لجمع هذه العادات والعقائد لكي يستضيء بها الباحث في نشأة الذهن البشري وأصول العقائد الأولى، وهذا الرجل هو السر فريزر الذي بلغ الثمانين من عمره هذا العام والذي ألَّف كتاب «الغصن الذهبي» في نحو ١٢ مجلدًا ثم اختصرها في مجلد يبلغ ٧٥٦ صفحة، وهو المجلد الذي قرأته وأعتقد أنه يجب ألا تخلو منه مكتبة رجل مثقف.
وأقول هذا وأنا مع ذلك لا أومن بأن النظرية التي يدافع عنها السر فريزر صحيحة؛ فإنه يقول بأن الأذهان البشرية تسير على منطق متشابه، فإذا تساوت الظروف من حيث البيئة والحاجة الإقليمية فإن الذهن يستجيب لها بعقائد أو آراء في مصر كما في إنجلترا أو الصين أو أفريقيا الجنوبية، وإننا لهذا السبب نجد مبادئ السحر التي يمارسها الزنجي في أفريقيا هي نفسها المبادئ التي يمارسها المتوحش في جاوة أو سومطرة أو أمريكا الجنوبية؛ ذلك لأن الإنسان المتوحش في هذه الأقاليم المختلفة قد اصطدم ببيئة متشابهة فاستجاب لها بآراء وعقائد متشابهة.
هذا ما يقوله فريزر، وهو بكلمة أخرى يتلخص في أن الثقافات البشرية الأولى قد تولَّدت في أماكنها المختلفة مستقلة، ولكن الرأي السائد الآن بين معظم الأنثروبولوجيين — أي الذين يبحثون عادات الإنسان البدائي أو المتوحش — يقول بأن هذه الثقافات لم تكن مستقلة، وإنما هي نشأت في مصر حيث ظهرت الحضارة الأولى، وخرج فيها الإنسان البدائي من سذاجته فانتشرت حتى وصلت جميع أنحاء العالم تقريبًا، ومن هنا التعليل الصادق لهذه المشابهة بل أحيانًا المطابقة بين عادات المتوحشين؛ فإنهم تناولوا الثقافة المصرية وهي على درجات معينة من التطور فوقفوا بها لأن البيئة لم تواتهم على الرقي بها، وزعيم هذا الرأي هو السر إليوت سمث، ولكن مهما كانت حماستنا لهذا الرأي فيجب ألَّا تعمينا عن هذا الحشد العظيم من المعارف التي جمعها السر فريزر في كتاب «الغصن الذهبي».
وعندي أن هذا الكتاب هو أعظم حجة للقائلين بالأصل المصري للحضارة القديمة؛ فإن فريزر عقد فيه أربعة فصول وافية عن الرب أوزوريس وفصلًا عن أسيس أخته وزوجته، وهذا الرب هو أقدم الأرباب المصرية أي أقدم الأرباب في الأمم القديمة، والذي يقرأ هذه الفصول يجد فيها البذور الأولى للثقافة الدينية القديمة وللعبادات التي شاعت بعد ذلك بين المتوحشين.
وكتاب «الغصن الذهبي» يحتاج الى وصف موجز لكي يقف القارئ منه على المنحى الذي ينحوه المؤلف في تفكيره؛ فإن أول فصوله هو ملك الغابة الذي كان يعيش في الغابة عند قدماء الرومان، فإذا أسن تقدم إليه شاب وقتله وأخذ مكانه، ثم يبحث المؤلف بعد ذلك في الملوك القسيسين، وقتل الملك عند المتوحشين هو أساس الكتاب، وهو الباعث الذي جعل فريزر يرصد حياته لبحث الموضوعات المختلفة التي يعالجها فيه، وهي مختلفة لأنها تتناول أشياء كثيرة حتى يصح أن يُسَمَّى الكتاب كشكولًا أنثروبولوجيًّا كما ترى من عناوين بعض الفصول وهي: السحر بالعدوى، السحر والدين، ضبط الجو بالسحر، السحرة والملوك، الآلهة المتجسدة في الإنسان، بقايا عبادة الشجر في أوروبا، الزواج المقدس، الطبو أي المحرمات في الأعمال والأشخاص والأشياء والكلمات، التضحية بابن الملك، الملك يؤكل، قتل الملك في مكسيكا، أعياد النار في أوروبا، إحراق الناس … إلخ إلخ.
وثقافة فريزر رائعة فإن القارئ تغمره أبحاثه، وهو إلى هذا كاتب دقيق العبارة جلي الفكرة يسحر بإيجازه وجلائه، وإني أنصح لجميع الذين آمنوا بالأصل المصري للثقافة أن يقرءوا هذا الكتاب لأن النظرية الصادقة يؤيدها الخصم كما يؤيدها الصديق، وهذه الشواهد التي تُعَدُّ بالمئات والتي يعبئها فريزر في لباقة وترتيب هي البرهان على أن الثقافة فشت في مكان واحد ثم انتشرت منه.
أما الكتب التي تؤيد رأي إليوت سمث فكثيرة، أهمها بالطبع مؤلفات إليوت سمث نفسه، وأهم هذه المؤلفات كتابه الضخم «التاريخ الإنساني» ثم كتاب بيري «أبناء الشمس» الذي يستقصي فيه الرحلة من أجل الذهب والجواهر، ومن أحسن ما يمتاز به بيري هذا البحث الذي تناوله عن «الازدواج» المصري الذي فشا في العالم ثم انقرض؛ فإن انضمام الوجه البحري إلى الوجه القبلي في حكم واحد جعل مهمة فرعون مزدوجة فكان له تاجان ولبيته بابان إلخ.
وفشا هذا النظام بين الشعوب في أنحاء العالم وليس له أي سبب معقول بينهم ما لم يرجع إلى الأصل المصري، وانقرض بينهم لأن الظرف الذي بعث عليه كان محليًّا في مصر، ومن أحسن الكتب أيضًا كتاب برستد «فجر الضمير» الذي يثبت فيه أن المصريين هم الذين علَّموا العالم مبادئ الأخلاق وأشعروه بأن له ضميرًا يحاسب به نفسه قبل أن يحاسب غيره.