حضارة مصر في العراق وآسيا
من المسائل التي كثر فيها الجدال مسألة الحضارة الأولى هي نشأت في العراق أم في مصر؟
والأغلبية الساحقة من الآثاريين هي الآن في صف مصر، تقول إنها هي الأصل والمنبت الذي نبتت فيه الحضارة الأولى ولكن هناك أقلية يتزعَّمُهَا ليوناردو ولي تقول بأن العراق هو الأصل، وليوناردو ولي هذا هو صاحب المكتشفات العظيمة في أور.
وهم عندما يقولون إن الحضارة نشأت في العراق يعنون أن سومر تلك المملكة القديمة البائدة هي التي اخترعت الحضارة الأولى، والسومريون شعب ينتهي إلى سلالة غير معروفة، وهم يبدون من نفوسهم أنهم كانوا يحلقون رءوسهم ويرسلون لحاهم، وهم أصحاب الخط الأسفيني أو المسماري الذي كانوا يكتبونه على الطين بالحفر فيجف ويُقرأ، وهؤلاء السومريون هم الذين جعلوا وحدة العد ٦٠، وهذه الوحدة هي التي ما زلنا نعمل بها في قياس الساعة، وهم أصحاب برج بابل.
وهؤلاء السومريون لم يكنوا ساميين، وما يُعرف عنهم قليل، ولكن من الحقائق الفاشية أنهم تعلموا الزراعة من مصر، فإن برستد يقول هنا: «وكان قد جاءهم من مصر الشعير ونوع من الحنطة الذي تنشق حبوبه؛ ولذلك دعوه باسمه المصري».
والزراعة حوالي سنة ٤٠٠٠ قبل الميلاد لم تكن شيئًا آخر غير القمح والشعير؛ لأنها كانت زراعة يد الحبة قامت على اكتشاف هذين النباتين، فإذا قلنا إن مصر علَّمت السومريين زراعة القمح والشعير ومنحتهما الاسم المصري، فإن هذا يعني أن مصر علمت السومريين الزراعة، والزراعة هي أول مراحل الحضارة.
وعند السومريين تقاليد قديمة تقول إن الذي علَّمهم رجل هبط عليهم من خليج فارس، ونحن لا نعرف شيئًا عنهم قبل سنة ٣٠٠٠ قبل الميلاد مع أننا نعرف أن مصر كانت متحضرة تعرف الزراعة وملاحة النهر والبحر حوالي سنة ٤٠٠٠ قبل عهد الفراعنة، فإذا صدقنا هذه التقاليد السومرية لم نجد مفرًّا من اعتقاد أن هذا الرجل الذي علَّم السومريين الزراعة وأعطاهم الاسم المصري للقمح هو رجل مصري خرج للبحث عن الذهب والعقاقير والجواهر التي تطيل الحياة، ونقل إلى العراق مبادئ الزراعة.
•••
وأور التي يعمل ليونارد ولي في التنقيب عن آثارها ليست لها المكانة التاريخية التي يمكن أن يقارنها الإنسان بمكانة مصر من حيث اختراع الحضارة، ولكن هناك مدينة أثرية أخرى هي سوسة مدينة العيلاميين التي تبعث الدهشة بآثارها القديمة؛ وذلك لأن هذه الآثار تشبه كل الشبه الآثار المصرية القديمة قبل عهد الأسر الفرعونية، فقد وُجِدَ فيها منجل حجري لا يشابه بل يطابق المنجل الذي اسْتُعْمِلَ في مصر قبل الأسر، ووجدت بها آثار منازل مستطيلة وطوب أخضر وفئوس من الحجر ورءوس للسهام وأشياء أخرى تطابق ما كان يُصنع في مصر قبل عهد الأسر الفرعونية. وقد قال المسيو إدمون بوتييه سنة ١٩١٢ «عندما نفحص عن الآثار المصرية قبل عهد التاريخ وفي العصور الأولى للأسر الفرعونية، ندهش لمواضع الشبه العديدة بينها وبين آثار العلاميين، وفي مصر نجد في الأشكال والأشياء والتفاصيل وصنعة ما يذكرنا بآثار سوسة». في أور وفي سوسة آثار قديمة تدل أيضًا على حضارة بدائية.
والشبه كبير بين حضارة أوروبا وحضارة مصر، وهو أكبر بين حضارة سوسة وبين حضارة مصر، فإذا لم نغتصب الاستنتاج المنطقي وإذا لم نتبع هذا الزعم القائل بأن الطبيعة البشرية تتشابه في كل مكان، وهي لذلك قادرة على الاختراع في كل مكان، إذا لم نقل ذلك فلا مَفَرَّ من أن نقول إن أور وسوسة قد علَّمَا مصر أو أن مصر هي التي علمتهما مبادئ الحضارة.
ولكن مصر كتاب كامل الصفحات يبدأ بالعصر الحجري ثم يتدرج إلى عصر الزراعة الأولى، وقد أثبت الدكتور ريزنر أن هذا الاستمرار لا ينقطع في تاريخنا القديم فإن أطوار العصر الحجري تتدرج وتندغم في أطوار الحضارة الزراعية الأولى، وعندنا في مصر ما يسمى الآن «عصر البداري» وهو يقع حوالي سنة ١٢٠٠٠ قبل الميلاد، وليس له شبه في سوسة أو أور أو أي بقعة أخرى في العالم، وهو عصر بدأت فيه مصر بشيء من الحضارة البدائية. وأساس الحضارة في مصر هو الزراعة، وأساس الزراعة في مصر هو النيل الذي علَّم المصريين مبادئها بانتظامه ومواظبة فيضانه عامًا بعد آخر حتى أدرك الإنسان القديم أن الماء أصل كل شيء حي، وهذا الأساس لم يُعرف في العراق لأن الفرات ودجلة نهران لا ينتظم فيضانهما الانتظام الذي نراه في النيل، وهما لذلك لا يفتقان الذهن أو يبعثان على التفكير كما حدث في مصر، ثم نحن لا نجد في أور أو سوسة هذا التدرج الذي لا ينقطع بين العصر الحجري وبين الحضارة الأولى كما نراه في مصر، ثم حضارة أور أو سوسة لا ترجع إلى أبعد من سنة ٣١٠٠ قبل الميلاد في تقدير المستر ولي في حين هي تمتد في مصر إلى أبعد من ذلك بكثير قبل عهد الأسر.
•••
وفي ضوء التاريخ المصري القديم وبالمقابلة بينه وبين تاريخ العراق نستطيع أن نقول إنه في عصر قديم سبق الدولة الأولى في مصر خرجت السفن المصرية من النيل تقصد إلى الشرق وتنشد هذه المواد التي تطيل الحياة كالجواهر والمعادن والعقاقير، فقطعت البحر الأحمر ثم جازت السواحل العربية إلى أن دخلت فارس والعراق، وهناك كانت النواة للحضارة المصرية الأولى، فحضارة سوسة هي حضارة مصرية أجنبية ولذلك سرعان ما انحطت لأن الذين أقاموها انقرضوا أو اندغموا فيمن حولهم من الشعوب فتنوسيت الثقافة التي جلبوها من مصر، ولو كانت حضارة سوسة أصلية فيها لوجدناها ترتقي بدلًا من أن تنحط.
ثم انتقلت حضارة السومريين «أور» والعيلاميين «سوسة» إلى الشرق لنفس البواعث التي بعثت المصريين على الهجرة، فإن العقائد التي تتصل بإطالة الحياة بعثت هؤلاء على الهجرة في طلب الذهب والجواهر إلى السند؛ ولذلك نجد السر مارشال يتحدث عن «حضارة سومرية هندية» في موهنجو دارو.
ثم تنتقل هذه الحضارة إلى الهند والصين وتتبع في طريقها مناجم الذهب وتحمل معها الثقافة الزراعية الأولى من القمح والشعير، وهذه الثقافة الأولى هي التي جلبت مع الآلهة المصرية القديمة التي تختص بالزراعة حتى يقول الرب: «أنا أوزوريس وأنا أعيش كالآلهة وأنا أعيش كالحَبِّ وأنمو كالحَبِّ، وأنا الشعير».
وكما انتقلت حضارة سومر إلى السند، وانتقلت حضارة السند إلى الهند، كذلك انتقلت حضارة الهند إلى سيام والجزر الملاوية، ثم انتقلت بعد ذلك حضارة الجزر الملاوية إلى القارة الأمريكية، وقد رأينا أن الاسم المصري للقمح قد استُعمل في العراق، والآن نجد اسم بعض الآلات الزراعية في الجزر الملاوية قد انتقل إلى أمريكا الجنوبية، ويرى هذا قبل أن يعرف كولمبس هذه القارة بآلاف السنين.
•••
وربما يكون من المفيد أن ننقل هذه الكلمة التالية للأستاذ إليوت سمث عن حضارة السومريين.
«من المألوف أن يقال إن حضارة السومريين قد أثَّرت في مصر في بداية عصر الأسر الفرعونية، ولكن النظر في التاريخ يوضح لنا استحالة ذلك، وذلك أن الفحص عن عادات الدفن في المدافن الأولى في أور قد ألقى ضوءًا على هذا الموضوع؛ فإن المستر ولي وجد عادات مختلفة كانت تتبع في القبور الأولى، فقد كانت الجثة تلفف في حصير وتُوضع في نعش بيضوي من الطين أو في نعش مستطيل من الخشب، وكانت القبور تبنى لها سقوف مقنطرة أو مرفوعة من الحجر، وهذه العادات تظهر في سومر مرة واحدة مفاجئة بلا تدرج، ولسنا نجد في عيلام «سوسة» أو في سومر «أور» أي أثر يدل على التدرج لهذه السلسلة من العادات المعقدة في الدفن، ووجود هذه الأشكال العديدة لمعالجة الدفن يدل على تاريخ معقد وراء هذه الثقافة لسكان أور الأولين، فإذا وجدنا في قطر آخر ما يكشف لنا عن التطور في هذه العادات كان لنا الحق في أن نزعم أن هذا القطر هو الأصل لهذه العادات، وقد شرح لنا المستر بري التاريخ الكامل في مصر لهذا التطور في عادات الدفن، وأنها كلها عُرِفَتْ ومورست عند نهاية الأسرة الثانية في حكم بيرابسن وخاسنحموتي.
وقد سبق أن رأينا كيف أن المصريين قبل عهد الأسر كانوا يلفون موتاهم في الجلد أو الحصير لكي يحموهم من التراب، وكيف أن هذه العادة أرشدتهم إلى صنع النعوش المختلفة، وكان الفقراء لا يزالون في عهد الدولة القديمة يلفون موتاهم في الحصير مدة طويلة بعد الأسرة الثانية، وكانت القبور تصفح جدرانها بالخشب قبل عهد الأسر، ثم صُنِعَ بعد ذلك صندوق من الخشب يمكن حمله هو أول نعش في العالم، ولا شك في أنه صُنِعَ أولًا للأغنياء، ثم صار الفقراء يقلدون هذا النعش ويصنعونه من الطين أو الفخار، وكانوا يصنعونه بيضويًّا في نهاية الأسرة الثانية أو بداية الأسرة الثالثة. وهذا الشكل البيضوي أسهل صنعا في الطين والفخار من الشكل المستطيل.
ومن المهم أن نلاحظ أن المستر ولي دهش حين وجد في أور أن النعوش المصنوعة من الطين هي للفقراء، أما المصنوعة من الخشب فكانت كما هي في مصر للأغنياء، وفي كل من مصر وأور وجدت النعوش الخشبية ولها طاقات مصفحة بالخشب.
وعند بداية الأسرة الأولى تجد عادات الدفن في مصر بلغت الطور الذي بلغته في أور، ولكن البناء بالحجر والسقف القبوي لم يكن قد ظهر بعدُ في مصر إذ هو اختُرِعَ بعد ذلك وقد بُدِئَ في مصر في البناء بالحجر للقبور في الأسرة الأولى، ولكن أول قبر كبير من الحجر هو قبر خاسخموي في الأسرة الثانية، وفي أواخر هذه الأسرة عُرِفَ السقف القبوي المرفرف لقبور النبلاء.
وعلى هذا نقول إن المجموعة المختلفة التي نجدها في أور عند السومريين إنما نمت في مصر بتراكم المخترعات التي بدأت قبل عصر الأسرة إلى أن تمت في نهاية الأسرة الثانية، وكذلك يمكن أن نقول بملء الثقة إن الحضارة الأولى في سومر كانت تعاصر الجزء الأخير من عصر الأسرة الثانية في مصر «حوالي ٣٠٠٠ ق.م.».
إن الحضارة كانت اختراعًا مصريًّا، ولم تكن عيلام وسومر سوى مستعمرات مصرية نقل إليها المصريون خميرة الثقافة، ولكن ما نُقِلَ لم يكن كل الحضارة لأن قسمًا فقط من هذه الثقافة تأصَّل ونبت ونما وثمت لذلك عناصر مميزة أخرى».