الذهب والمعادن عند الفراعنة
كلنا يعرف أن هجرة الأوروبيين إلى القارة الأمريكية تعود إلى رغبتهم في الذهب، وأن استعمار الأمريكيين للولايات المتحدة نفسها كان يسير على الدوام في أثر الذهب، فحيثما يكون المنجم يهرع إليه السكان، وأفريقيا الجنوبية لم تُسْتَعْمَرْ إلا من أجل الذهب.
وكذلك الحال عندما القدماء؛ فإن الكتب السنسكريتية تذكر أن هجرة الهنود إلى الهند كانت تتخذ على الدوام تلك الطرق التي تؤدي إلى مناجم الذهب، ولكن الهنود القدماء مثل المصريين القدماء لم يكونوا يطلبون الذهب من أجل الزينة والنقد كما يُطلب الآن، بل كانوا يعزون إليه صفات قيمة أكبر عندهم وألصق بحياتهم من قيمته عندنا.
كان القدماء من الهنود يصفون الذهب في كتبهم التي لا تزال تُقْرَأُ في اللغة السنسكريتية المنقرضة بأنه خالد وأنه متولد من النار وأنه يعيد الشباب ويطيل الحياة ويكثر النسل، وهو النار والنور والخلود معًا.
وهذه والصفات لم يخترعها الآريون المهاجرون إلى الهند، وإنما هم أخذوها عن الفراعنة؛ فإن تقديس الذهب عقيدة فرعونية، فهم كانوا أبناء الشمس أي أبناء رع، وكان يجري في عروقهم سائل الذهب الذي ورثوه عن رع.
وقد دهشنا قبل سنوات عندما اكتشف قبر توتنخ آمون، ورأينا مقدارًا عظيمًا من الذهب، ولكن هذا الفرعون لم يكن شاذًّا في وفرة الذهب فإن جميع الفراعنة منذ الأسرة الأولى بل جميع النبلاء كانوا يضعون الذهب في القبور لأنه الوسيلة إلى الخلود.
وهذه القداسة التي نُسِبَتْ إلى الذهب أيام الفراعنة قد انحدرت إلى الأمم القديمة، بل بقيت منها أثارة حتى في القرون الوسطى حين اختلط البحث عن إكسير الحياة بالبحث عن إحالة المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة والذهب بالطبع في رأسها، وهذا الاختلاط يؤيد قدم العقيدة في قداسة الذهب وأنه معدن الآلهة والسبيل إلى الخلود.
•••
وكيف وصل الذهب إلى هذه المنزلة؟
للجواب على هذا السؤال نقول إننا نجد في المتحف المصري ودعًا مصنوعًا من الذهب، وهو يُعزى إلى الأسرة الأولى، وليس في العالم الآن صائغ يصوغ الذهب في هيئة الودع، ونعنى هذا الودع الذي ما زلنا نجده عند العرافين الذين يخبروننا عن طالعنا بضربه فوق الرمل.
هذا الودع كان له أثر كبير جدًّا في عقائد الإنسان البدائي في العصر الحجري، حتى لقد كان سببًا في انتقال الثقافة الأولى بين البشر كما أوضح ذلك المستر ولفرد جاكسون في كتابه «الأصداف ودلالتها على الهجرة الثقافية».
فإن الإنسان في العصر الحجري كان من السذاجة بحيث كان يعتقد أن الأم هي العامل الوحيد للولادة، وكان يجهل الأبوة بمعناها البيولوجي؛ ولذلك نظر إلى الودعة نظرة خاصة لما بينها وبين عضو التناسل في المرأة من مشابهة، فقدسها لهذا السبب وصار يتجشم المشاق لجلبها من البقاع النائية لكي يحملها وهو يتوهم أنها ما دامت هي الأصل في الحياة فإنها قادرة على أن تحفظه في صحة دائمة وتقيه من الأمراض وتطيل عمره حتى بعد الموت؛ وذلك لأن الموت عنده كان حياة أخرى تحتاج أيضًا إلى ما يحفظها ويطيلها.
ولكن الودعة بطبيعتها صَدَفَةٌ هَشَّةٌ تنكسر لأقل مصادمة، وهي مع ذلك كانت تُجلب من البقاع النائية؛ ولذلك فكر الإنسان البدائي في أن يصنع ودعًا من الحجر، وظل الإيمان بالودعة مدة طويلة حتى بعد أن اهتدى المصريون إلى الزراعة وأسسوا الحضارة، وكانوا يصنعونها من الحجر والذهب.
ويرى إليوت سمث أن اكتشفاهم للذهب كان مصادفة حين كانوا يبعثون بعثاتهم إلى سواحل البحر الأحمر لجمع الودع، فإن هذا الودع لا يوجد في سواحلنا الشمالية وإنما يوجد كثيرًا في البحر الأحمر، وهناك عثروا على مناجم الذهب فاستحسنوا لونه وخِفَّتَهُ ومرونته ونصاعته، فصاروا يصنعون منه تماثيل صغيرة للودع بدلًا من أن يصنعوها من الحجر، وشاع بعد ذلك استعمال الذهب لهذه الغاية، ثم بتوالي السنين أو القرون انتقلت ميزات الودعة إلى الذهب حتى أصبح المعدن نفسه يضفي على من يحمله أو يتحلى به صفات الصحة والخلود أو طول البقاء.
•••
الودعة والبقرة والذهب: هذه الأشياء الثلاثة كانت تمثل في أذهان جدودنا الفراعنة معاني الصحة وطول العمر والخلود، ولا بد أن الودعة فقدت قيمتها عندما عمَّت الحضارة البدائية الأولى وشرع الناس يفكرون في وظيفة الرجل البيولوجية في التناسل، ولكن الذهب كان قد احتل من نفوسهم مكانًا كبيرًا يلابس عواطفهم فبقيت مكانته، أما البقرة فكانت حاضرة على الدوام في أذهانهم وهي أعم من الذهب؛ لأن هذه المعادن كانت حيازته تقتصر على الأغنياء وأما البقرة فكانت عامة في الريف يملكها الزارعون، وكانت رمزًا للأمومة ترضع الناس لبنها فيقوم عند الطفل مقام اللبن الذي يرضعه من أمه؛ ومن هنا أصبحت البقرة — التي لا تزال تُقَدَّسُ في الهند — الربة هاتور.
ولكن الودعة والبقرة والذهب اختلطت لأنها جميعها تؤدي مهمة واحدة، وهذا القول هو الذي تثبته الشواهد التاريخية؛ ولذلك ترى الكلمة الهيروغليفية لهاتور تعني الذهب، وهي توصف بأنها «هاتور الذهبية».
ومن هنا عناية القدماء بالذهب الذي كانوا يبعثون البعثات إلى الأقطار النائية لجلبة واحتفالهم به ودفنه مع الموتى.
•••
وكان الذهب بذلك وسيلة لنقل الحضارة — حضارة أبناء الشمس — في عصر الفراعنة من مصر إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا بل إلى أمريكا، والآن يطوف السائح المنقِّب فيجد في تاريخ الأمم التي ينزل فيها أو في تقاليدها الباقية قصصًا عن أبناء الآلهة الذين نزلوا فيها واكتشفوا الذهب.
وأبناء الآلهة هم أبناء الشمس أي رع، هم المصريون الذين أقاموا حيث كان الذهب وزرعوا وعملوا من حولهم التقويم الشمسي وتحنيط الموتى وبناء الهرم، ونقلوا الإنسان من العصر الحجري إلى الحضارة.
ولم تقف مهمة الذهب عند إفشاء الثقافة، فإن المصريين افتتحوا به عصر المعادن، واستخرجوا الناس واستعملوه أولًا كما يُستعمل الذهب للشبه الكبير بينهما، ثم وجدوا من صلابته ما يجعله صالحًا للآلات فصاغوا منه الخناجر على هيئة الأسلحة الحجرية القديمة، ثم صنعوا السيف وهو خنجر طويل، ووجدوا في الرماد المتخلف من صهر النحاس مواد لصنع المينا التي يُطلى بها الفخار، ثم ارتقوا من ذلك إلى صنع الزجاج.
وهكذا نجد سلسلة متعددة الحلقات من ألوان الرقي البشري نشأت جميعها على أسطورة قديمة هي أن الذهب يطيل العمر.
•••
في هذا العام ١٩٣٥ يبلغ السر جيمس فريزر الحادية والثمانين من عمره، وهذا العالم العظيم قد عُرِفَ وذاع صيته بكتاب يُدْعَى «الغصن الذهبي» تعد صفحاته بالألوف، وهو مجموعة وافية من العادات والعبادات والشعائر وألوان السحر والعرافة والعقائد التي تتمشَّى في أنحاء العالم المتحضر والمتوحش، ولهذا الكتاب موجز تبلغ صفحاته ٧٥٦.
والقارئ لهذا الكتاب يُعْجَبُ بهِمَّةِ المؤلف وجَلَدِهِ وإحاطته، وسيبقى هذا الكتاب خالدًا بين الكتب التي تُعَدُّ مراجع غالية وإن كان أساسه كله خطأ؛ فإن الحقائق المدونة فيه لها فائدتها التي يمكن كل قارئ أن ينتفع بها، أما استنتاجات المؤلف منها فقد ثبت خطأها ولا قيمة لها الآن.
فإن المؤلف يفرض أن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان، وأنها تستجيب للظواهر الطبيعية بعقائد متشابهة؛ ولذلك إذا عرفنا أن التحنيط معروف في بيرو في أمريكا السفلى وفي الجزر الملاوية في جنوبي أسيا وفي مصر وفي الكونجو، فإننا يجب أن نعرف أن الظروف تشابهت فاستجاب لها الإنسان في جميع هذه الأقطار استجابات متشابهة، فليس هناك إذن ما يدعونا إلى أن نفرض أن الثقافة انتقلت في مسألة التحنيط من قطر إلى آخر، وكذلك الشأن في اختراع الزراعة والاهتداء إلى المعادن ونظام الحكومة والكهانة والزواج إلى غير ذلك.
ولكن هل هذا هو الواقع الذي نستطيع أن ندعمه بشهادة الحياة التي يعيشها البشر أو قبائلهم أو أممهم المختلفة؟
إن الواقع يثبت أن الأمم أو القبائل أحيانًا تتجاور ومع ذلك تعيش كل منها في حدود ثقافتها الموروثة، فهذه قبيلة تمارس الزراعة وأخرى تجاورها، ولكنها لا تزال تجمع الطعام جمعًا ولا تستنتجه استنتاجًا، وهذه طائفة تمارس عادات الزواج أو تحريم بعض الطعام فتخالف الطوائف الأخرى المحيطة بها، ولو أن الجميع يتجاورون ويختلطون. وكل ذلك لأن لكل منها تراثًا ثقافيًّا يجعلها تحب وتكره ما لا يحبه غيرها أو يكرهه.
والإنسان بطبيعته جامد لا يقبل على العادة الجديدة وليس هو بالمفكر النشيط الذي يدأب في الاختراع والاكتشاف، فإذا فرضنا أن إحدى الأمم اهتدت إلى اكتشاف أو اختراع فإن من المبالغة الكبيرة في حسن الظن بالذهن البشري أن نعتقد أن سائر الأمم ستخترع مثلها، وقصارى ما يحدث أنها تنقل عنها في بطء وفتور، وانتشار الأديان الحديثة يدل على أن انتقال الثقافة من قطر إلى آخر في العصور القديمة كان مألوفًا، ولما كانت الحضارة المصرية القديمة تتصل بالدين وتمس العقائد التي تتعلق بالصحة وطول العمر والخلود والتناسل؛ كانت تجد قبولًا بل تلهفًا أينما حلت لأن الإنسان مهموم بهذه الأشياء، كما يدل على ذلك مثلًا هذه المعارف الجديدة عن الفيتامينات التي فشت بين الناس هذه الأيام وبولغ فيها مبالغات كثيرة خرجت بها عن حدودها العلمية؛ فإن الناس لشوقهم إلى ما يطيل العمر ويقوي الصحة يكثرون من قراءة هذه الموضوعات، كما أن الكتاب الذين عرفوا هذا الشغف قد أصبحوا يبالغون في فائدة الفيتامينات.
وهكذا الحال في العصور القديمة فإن الوهم الذي أشاعه المصريون عن فائدة الذهب والتحنيط جعل الأمم البدائية الأخرى تعتنق مذهبهم وتقبل حضارتهم وترتقي بها إلى الاكتشافات والاختراعات الأخرى.
•••
ويجب عندما نبحث انتقال الثقافة المصرية إلى أقطار العالم أن نميز بين إنسانين أحدهما الإنسان البدائي والآخر الإنسان المتوحش.
فإن الإنسان البدائي لا يعرف الزراعة وليس عنده تراث كثير أو قليل من التقاليد، فهو يعيش عيشة ساذجة يجهل فيها اللباس والمسكن والغزو والسبي.
أما الإنسان المتوحش فيعرف طائفة عظيمة من العقائد يمارسها، منها السحر والقتال ونظام الحكم وأحيانًا يعرف الزراعة، وهذا الإنسان هو الذي جمع السر جيمس فريزر عاداته من جميع الأقطار وعرضها في كتابه لكي يثبت المشابهة في استجابة الذهن البشري للبيئة إذا اتفقت الظروف.
ولكن مدرسة كمبردج التي تقول بأن مصر هي أصل الحضارة التي تَفَشَّتْ منها إلى سائر الأقطار تفسِّر هذا التوحش عند المتوحشين بأن الثقافة المصرية القديمة وصلت إليهم فركدت ولم ترتقِ أو هي انحطت على أيديهم وانمسخت.
وهذا التفسير يبرره الاستقراء؛ لأننا نجد في عادات المتوحشين الحاضرة بذور الثقافة المصرية القديمة.