التحنيط والبناء
كان القبر أصلًا من أصول الحضارة القديمة، منه تعلم الإنسان البناء ونحت التماثيل، وعنه أنشئت المعابد وتأسست الأديان القديمة، وعُرفت الكيمياء عن التحنيط، ووصل الناس إلى أقصى الأرض يبحثون عن الذهب والمعادن والإيتاء بهما لإطالة العمر بعد الموت.
كان المصريون قبل أن يعرفوا القبور يتركون موتاهم للشمس فتجف الجثة ويبدو كأنها صاحبها لا يزال سليم الأعضاء، ثم يلفونها في القماش ويحفرون لها حفرة غير عميقة، وكانوا أحيانًا يفصلون بينها وبين جدران الحفرة بالبوص لكي يمنعون التراب أو الرمل المحيط عن الانهيار على الجثة، ثم صاروا يفرشون الأرض وجدران القبر بألواح من الخشب بدلًا من البوص، وأخيرًا صنعوا النعش، ويمكننا الآن أن نقول إن النعش كان أول ما صنعه النجارون وإن القبر أول ما بناه البناءون في العالم.
ولكن المصريين في تجاربهم الأولى عن تخليد الجثة لكي يطمئنوا إلى أن حياتها لا تزال باقية، رأوا أنهم عكسوا الغاية باختراع النعش؛ لأن الجثة بدلًا من أن تبقى سليمة تفسد وينحل اللحم، ومتى زال اللحم زال البقاء، وكانت لهم مصلحة كبيرة في أن يبقى الميت العظيم رئيسًا كان أو كاهنًا أو ملكًا؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنه هو الذي كان يزيد المحصولات، فما دام حيًّا (بعد الموت) لا يكون هناك خطر من نقص الطعام.
وكانوا يعرفون من تمليح السمك وتجفيفه أنه يمكن اللحم أن يبقى سليمًا ما دام مملحًا أو مجففًا، وقد التفت هيرودوتس السائح الإغريقي إلى عناية المصريين بهذه الصناعة ممَّا يدل على أنها كانت عريقة عندهم، كما عرفوا أن نزع الأحشاء هو شرط لمنع التعفن سواء في السمك أو الإنسان، ومن المرجح أنهم اهتدوا إلى تمليح الجثة من تمليح السمك والتمليح هو أساس التحنيط.
وما زلنا إلى الآن نحتفل بمرور أربعين يومًا على وفاة الميت، وهذه الأيام هي التي كانت الجثة تقضيها وهي مغمورة في الماء والملح ثم تخرج بعدها لكي تُعَالَجَ وتُحَنَّطَ بأنواع أخرى من العقاقير والأفاويه والراتينجات وتلفف بالأقمشة قبل أن تدفن، ولكن حتى مع هذا التحنيط لم يثق المصريون كل الثقة بأن الروح ستعرف الجثة فصنعوا لها تمثالًا لكي لا تضل، فإنهم رأوا أنهم مهما أتقنوا التحنيط فإن الوجه تتغير ملامحه فصنعوا أولًا صورة فوق لفائف المومياء تشبه الأصل، ولكن هذه الصورة لم تكف فصنعوا التمثال.
وربما يكون من المبالغة أن نقول إن الرسم والنحت قد نشأ كلاهما من العناية بالميت؛ فإن الطبيعة الإنسانية أكبر من ذلك، وللفنون لذة تتجاوز حدود المنفعة، وقد ترك الإنسان البدائي رسومًا لا يمكن أن تُفَسَّرَ بالغاية النفعية؛ إذ إن الروح الفني واضح فيها، ولكن يجب أن نعترف بأن القبر المصري كان أحد الأصول — أو على الأقل الوسائل — للنحت والرسم، فكان التمثال يُصْنَعُ من الخشب أو الحجر ووجه المومياء يُرْسَمُ بالألوان.
وقبل أسابيع ذكرت الصحف خبرًا غريبًا هو أن بعض اللصوص سرقوا جثة وجيه من وجهاء المنيا، ولا بد أن هؤلاء اللصوص هم من سلالة أولئك اللصوص الذين كانوا يسرقون قبور الفراعنة وكبار رجال الدولة، والإغراء بالسرقة في الأزمنة القديمة كان أكبر ممَّا هو الآن؛ وذلك لأن أسلافنا كانوا يضعون مع الميت مقدارًا من الذهب اعتقادًا بأن هذا المعدن يطيل الحياة ويمنع عنه الفساد؛ ولذلك فكر المصريون كثيرًا في بناء القبر بحيث يضل الباحث سواء أكان لصًّا سافلًا أو عالمًا مصرلوجيًّا عن الوصول إليه، وهذا التفكير جعلهم يتقنون صناعة البناء بالحجر، ولكن هذا الإتقان لأجل الميت فقط لأن فرعون نفسه كان يعيش في قصر من الطوب النيئ كما يفعل فلاحونا إلى الآن.
ثم اعتقدوا أن الميت يحتاج إلى الطعام فبُنِيَتْ منصة أمام القبر ليوضع عليها، ومن هذه المنصة وبناء القبر نشأ المعبد والقربان، ويجب أن نذكر أن فرعون كان إلهًا في حياته، وكذلك كان بعد وفاته، ومن هنا يسهل علينا كيف تطور القبر إلى المعبد المصري القديم.
وهذا القبر المصري لا نراه في مصر فقط، بل ما زلنا نجده في أقطار العالم النائية في جزيرة العرب وفرنسا وبريطانيا وأقطار آسيا وأفريقيا؛ وذلك لأن المصريين الذين خرجوا من مصر للبحث عن الذهب والعقاقير والخشب وسائر ما يلزم للميت، كانوا أحيانًا يموتون قبل أن تُتاح لهم العودة إلى بلادهم فكانوا يبنون قبورهم حيث هم في جزيرة العرب أو في السودان أو في فرنسا، ولكنهم كانوا يبنونها وهم يجهلون الدقة في الصناعة، فكان القبر يُبنى وكأنه الرسم الكروكي للأصل، فقد كانوا مثلًا يصلون بين منصة الطعام وبين التمثال الذي يُنحت على هيئة الميت بطاق مفتوح لكي يستطيع التمثال أن يأكل ما يقدم له.
هذا في الأصل أي في مصر، ولكنهم في الهند مثلًا فتحوا الطاق ولم يستطيعوا صنع التمثال، أو أقاموا الأعمدة وحفروا السراديب ولكنهم عجزوا عن تحقيق سائر الملحقات، وهذه القبور أو الأطلال التي تدل على أن المصريين هم الذين بَنَوْهَا لا يكاد يخلو منها قطر في العالم، وهي تسمى عند العرب أرام، وفي اللغة الإنجليزية «دولمن».
وعندما نتتبع الأماكن التي لا تزال فيها هذه الأطلال قائمة نجد أنها قريبة من مناجم الذهب أو أي معدن آخر يشبه الذهب مثل النحاس أو غيره، وكما أننا نجد أن الهرم قد انتقل إلى أمريكا على أيدي أناس تثقفوا بالثقافة المصرية، كذلك نجد القبر المصري منتشرًا في كل مكان والقبور أسهل بناء من الأهرام؛ ولذلك هي أكثر عددًا وانتشارًا منها.
وقيام هذه الآرام إلى جنب المناجم أو بالقرب منها يدل على أن الذين بَنَوْهَا كانوا يقصدون من رحلتهم إلى الأقطار النائية إلى جلب الذهب، وقد بقيت هذه الحال إلى عصرنا الحديث؛ فإن الفينيقيين رحلوا إلى إنجلترا لجلب المعادن، بل عندما نتأمل الباعث الرحلات القديمة نجد أنها تكاد تنحصر في جلب المعادن والأفاويه ولكليهما علاقة بالتحنيط.
وكما انتقل بناء القبر المصري وتفشى في أنحاء العالم كذلك انتقل فن التحنيط حتى بلغ القارة الأمريكية، وهناك شواهد تشريحية تدل على أن التحنيط في أمريكا قد صار على الطريقة التي اتُّبِعَتْ في مصر حتى إن بعض الأعضاء التي عولجت بطريقة خاصة في مصر نراها هي نفسها قد عولجت أيضًا في القارة الأمريكية؛ لأنها تتعلق بشعائر وعادات أبناء الشمس أي المصريين.
وأبناء الشمس هؤلاء لا تخلو أمة من الأمم المختلفة من تقاليدهم، وهذه الأمم تحتفظ بهذه التقاليد لأنها كانت ولا تزال بطيئة التطور لم ينسخ الجديد فيها القديم، فهم يذكرون في تقاليدهم أن «أبناء الشمس» جاءوهم وعلَّموهم العبادة والزراعة ودفن الموتى وبناء القبور واستخراج الذهب ونحت الحجر.
ومن التحنيط عرف الإنسان الكيمياء حتى إن الإغريق أطلقوا لفظة كيمي وهي تعني مصر على هذا العلم، ومن الزراعة عرف الإنسان الفلك؛ لأنه اضطر إلى معرفة الأوقات الزراعية على النظام الشمسي حتى لا يخطئ أيام الزرع أو الحصاد، ومن البحث الخرافي عن تخليد الموتى ارتقى المصريون إلى البحث عن الوسائل التي تحفظ صحة الجسم، ومن بناء القبر ارتقوا إلى بناء المعبد ثم إلى بناء المساكن بعد فترة طويلة من الإهمال، ومن عبادة الآلهة المتعددة إلى عبادة الإله الواحد أيام أخناتون.
•••
وعندما نتكلم عن الحضارة المصرية القديمة يجب ألا يفوتنا أننا نتحدث عن نحو ٤٥٠٠ سنة قبل الميلاد تقلَّبت فيها البلاد على حضارات مختلفة؛ ولذلك نحن نتجوز حين نقول «الحضارة المصرية» لأنها لم تكن واحدة طول هذه القرون المتعاقبة، وإلى الآن نجد في أنحاء العالم شواهد تدل على انتقال ثقافة مصر في الأسرة الخامسة أو السادسة، وشواهد أخرى تدل على انتقالها في أيام الأسرة الثانية عشرة أو حتى الأسرة الخامسة والعشرين.
وقد زال بناء الهرم من مصر بعد الأسر الأولى، ولكن بناء القبور بقي على ما هو عليه إلى العصور الحديثة، وبقي التحنيط حتى إلى ما بعد دخول الدين المسيحي، ومع ما حاوله أبناء المسيحية في القرون الأولى من إلغائه لم يستطيعوا ذلك لأن العادة كانت قد تأصلت في النفوس؛ ولذلك فإن المسيحيين بقواعده قرون وهم يحنطون موتاهم في مصر، ولم يُقْضَ على هذه العادة إلا بعد دخول الإسلام.