حضارة مصر في أفريقيا
- الأول: كيف يطيل عمره ويديم قوة شبابه.
- والثاني: كيف يوفر الطعام.
فأما إطالة العمر وإدامة الشباب فكان يتوسل إليهما بجلب الجواهر كالمرجان واللؤلؤ أو المعادن النفيسة كالذهب، ثم كان يعتمد على التحنيط لبقاء الجثة سليمة اعتقادًا بأن سلامة الجسم تكفل سلامة النفس؛ ومن هنا كانت الهجرة لجلب هذه الجواهر والمعادن وكان التعارف وتفشي الحضارة المصرية في أنحاء العالم.
أما توفير الطعام فكان همًّا آخر قد لا ندرك قيمته نحن هذه الأيام لأنه لم تمر بنا سنة من السنوات حلَّ فيها القحط وجعل الناس يموتون من الجوع، ولكن تاريخ العالم حافل بهذه المجاعات، ولا بد أنها كانت في الأزمنة القديمة أكثر مما هي الآن.
ولم يكن للإنسان هموم أخطر من هذين الهَمَّيْنِ، إطالة العمر وتوفير الطعام، وهما الآن أخطر الهموم عند المتوحشين أو قبائل الهمج بين الزنوج؛ فإن هؤلاء الزنوج يقومون بشعائر دينية تتعلق بالشباب والزراعة، والمتأمل لهذه الشعائر لا يتمالك من أن ينسبها لمصر.
نشأت الأنظمة والأديان والشعائر في مصر لهاتين الغايتين، فكان فرعون يُؤَلَّهُ لأن مهمته الأصلية الاستكثار من الزرع ومباركته على نحو ما يقوم به «كاهن المطر» أو «كاهن الزراعة» عند المتوحشين الآن، وكانت أديان مصر جميعها ترمي إلى الاحتفاظ بالشباب وتوقي الموت.
وقد تفشت هذه الحضارة في جميع أنحاء العالم تقريبًا ثم تطورت في الأمم الحديثة حتى غابت معالمها الأولى أو كادت، فلو شئنا أن نبحث عن الحضارة المصرية القديمة في أوروبا الحديثة لوجدنا بعض المشاقِّ لأن أوروبا في انقلاباتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد انسلخت من طبقات التقاليد القديمة.
ولكنا ما زلنا نجد الأثر لهذه الحضارة المصرية في إلياذة هوميروس الإغريقية وفي الآرام المبثوثة في أنحاء أوروبا وفي الأساطير الدينية الرومانية القديمة وفي الملوكية … إلخ.
ولكن حيث تكون الأمة راكدة أو بطيئة في تطورها نجد أن العقائد المصرية القديمة واضحة؛ فإن بناء الأهرام وتحنيط الجثث لم يختلفا بين سكان أمريكا الجنوبية والوسطى عمَّا كانا عليه عند أسلافنا، وكذلك لا تزال ممالك الزنوج أو قبائلهم في أفريقيا تمارس من عاداتنا وشعائرنا القديمة ما نسيناه نحن أو أقلعنا عنه قبل نحو ٣٠٠٠ سنة.
•••
وهذه الكلمة التي نقولها سنخصها بالتقاليد المصرية التي تفشَّت في أنحاء أفريقيا وخاصة بين الزنوج، ونعتمد فيها على الأستاذ سيليجمان مؤلف «مصر وأفريقيا الزنجية» وقد صدر هذا الكتاب هذا العام.
- (١)
الأول هو الطريق الشمالي الغربي أو ما نسميه الآن طرابلس وتونس إلخ، وقد كانت قرطجنة «تونس» تتخذ قرص الشمس المصري رسمًا لنقودها في القرن الثالث قبل الميلاد.
- (٢)
ثم طريق النيل الأبيض.
- (٣)
ثم طريق النيل الأزرق.
- (٤)
وأخيرًا طرق الواحات.
وبهذه الطرق الأربعة كانت تصل حضارة مصر إلى أنحاء أفريقيا فتعرف في الحبشة والبحيرات ونيجيريا بل في الكونجو.
ويجب أن نلتمس الأصل في العقائد الزنجية وأنظمتهم الاجتماعية في عقائد مصر القديمة، ونحن نراها في سنة ١٩٣٤ بعد الميلاد كما كانت قبل ٥٠٠٠ سنة في مصر بلا تنقيح أو تبديل؛ لأن هذه القبائل راكدة لا ترتقي ولا تقلع عن تقاليدها القديمة.
نذكر الآن بضعة أشياء وعادات ليست مشابهة لما كان يمارسه آباؤنا قبل آلاف السنين، بل مطابقة لأنها منقولة نقلًا لم ينقح، ففي الأسرة الخامسة مثلًا كانت العادة الفاشِيَة أن يُلوى قرن البقرة، ولا تزال رسوم باقية تبين لنا ذلك اللَّي، وإلى الآن يمارس رعاة البقرة في النوير هذه العادة.
وقد كان الصقر شعار الملوكية عند الفراعنة، وهو كذلك الآن عند الملوك في أوغندا.
وتحنيط الجثة فن مصري قديم يحتاج إلى علم بالكيمياء والعقاقير، كما يحتاج إلى أقمشة كثيرة تلفف بها المومياء، وقد عجز الزنوج في الكونجو عن الكيمياء والعقاقير، ولكنهم يلففون جثة الملك أو الأمير بأقمشة كثيرة هي المظهر الخارجي للتحنيط.
والآلات الموسيقية التي تستعمل في أفريقيا الغربية الآن هي نفسها الآلات المصرية القديمة، وهنا يجب أن نقرر أن المسألة ليست مسألة مشابهة بل مطابقة.
•••
وقد نشأت المملكة الميروئية في الجزء الشمالي من السودان واتصلت بالحبشة، وكانت هذه المملكة طبعة أخرى للمدنية المصرية ووسيلة لنقلها وتوزيعها في الأقطار المحيطة، فعرف بناء الهرم في السودان كما عرفت الربة هاتور ونقلت بالطبع عادات مصرية كما درست الثقافة المصرية.
ومما يجب أن يلاحظ هنا أننا نجد العادات أو الشعائر المصرية التي شاعت بين الزنوج في أفريقيا تحتفظ احتفاظًا عجيبًا بمسحتها البدائية، حتى لقد ترتقي في مصر بعد ذلك وتتخلص منها أو ترتقي بها إلى طور أعلى فتبقى هي بين الزنوج على أصلها الذي زال من مصر، وليس هذا مقصورًا على الزنوج بل هو عام بين جميع الأمم أو القبائل الراكدة التي تفشَّت بينها ثقافة مصر القديمة.
ففي مصر قبل الأسرة الخامسة كان اعتقاد خلود الروح والتمتع بالعالم الآخر مقصورًا على الملوك والأمراء والكهنة، ثم ثار الشعب وطلب تعميم هذا الحق، ولكنا ما زلنا نجد الاعتقاد القديم قائما في بعض أنحاء أفريقيا وآسيا.
وفي مصر كان الاعتقاد القديم أيضًا يقول بالتضحية البشرية، وقد زال هذا الاعتقاد قبل الأسرة الأولى، ولكن هذه التضحية عُرِفَتْ في شمال السودان حتى حين كان الحاكم واليًا مصريًّا موفدًا من مصر.
بل هناك ما يدعو إلى الظن بأن فرعون مصر في الأزمنة البعيدة أو بكلمة أصح ذلك الأمير أو الرئيس الذي سبق عصر الفراعنة كان يعد من الآلهة، وأنه كان يُقْتَلُ إذا ظهرت عليه أمارات الشيخوخة؛ وذلك لأن المهمة الأصلية له هي الزرع، وصحة الزرع كانت تتوقف على صحته وقوته، فإذا أَلَمَّ به الضعف من مرض أو شيخوخة قُتِلَ حتى يقوم بمهمته شاب يتمتع بالصحة والقوة.
وارتقت مصر من التضحية البشرية ومن قتل الأمير، وصار الفراعنة يبعثون البعثات للبحث عن الذهب والجواهر التي تديم الشباب والقوة ويضعونها في قبورهم لهذا الغرض نفسه.
ولكن الثقافة الأولى — ثقافة التضحية وقتل الأمير أو كاهن المطر والزرع — لا تزال قائمة بين الزنوج في أفريقيا إلى يومنا هذا، حتى إن الكاهن يطلب إلى قومه أن يقتلوه إذا أحس الضعف؛ لأنه يعتقد أن ضعفه هو ضعف للأرض والزرع، وأن من المصلحة أن يتولى شاب الحكم بدلًا منه لكي يزيد البركات، ثم يجب ألَّا يبرح من أذهاننا أنه حين يُقتل يعد نفسه قد انتقل للعالم الآخر وأن حياته هناك متصلة بحياته هنا على نحو ما فهم الفراعنة تمامًا حين استعدوا للعالم الثاني بالتحنيط.
•••
والآن نذكر شيئًا آخر لا يقوم على المشابهة ولا على الاستنتاج؛ لأن المطابقة واضحة فيه، فقد ذكر روسكو في كتابه عن قبيلة البوجندا أن الملك في إحدى قبائلها يؤدي شعائر خاصة يوم تتويجه؛ فإنه يتناول قوسًا لها وَتَرٌ قد نزع من جسم آدمي ثم تقدم له السهام فيشد أوتارها لكي «يرمي بها الأمم».
ويقول روسكو في وصف ما رأى: «لما شُدَّتِ القوس سُلِّمَتْ للملك ومعها أربعة سهام فرماها جميعها عن القوس، كل واحد منها في جهة من الجهات الأربع وهو يقول ما ترجمته: إني أضرب الأمم وأغلبها. ويذكر اسم واحدة من الأمم وهو يرمي بالسهم في ناحيتها، ويهرع أتباعه فيحملون إليه السهام التي تحفظ في الجعبة إلى احتفال آخر… لأن هذا الاحتفال كان يكرر في بداية كل عام».
وهذا الاحتفال نقسه منقوش جملة مرات في قبور الفراعنة؛ فإن الملك تحتمس الثالث يرمي الجهات الأربع في واحد من هذه النقوش وفي نقش آخر نرى طهراقه وزوجته الملكة ترمي الجهات الأربع بالقوس، وهذا الاحتفال رمز للقوة والغلبة.
•••
إن هذه الأمثلة جميعها تدل على أن ثقافة المتوحشين في أفريقيا الزنجية ترجع إلى أصل مصري، وإذا كان الزنوج لم يرتقوا فلأن البيئة المحيطة بهم قد حالت دون ذلك؛ فإن مصر قطعت أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وهي بوتقة للعقائد الدينية، عرفت فيها دفن الموتى ومعنى الخلود والعالم الثاني والإثابة على الحسنة والعقاب على السيئة وكثير من الحكم السامية قد عُزيت إلى آلتها وكهنتها، وقد ألهمت العالم كثيرًا من عقائد فتغنى الإغريق بالرب آمون، وقد رأيت بنفسي معبد ربتنا القديمة أسيس في مدينة بومباي التي طمرها بركان فيزوف، وقد عبد القرطاجنيون قرص الشمس المصري، وبنيت الأهرام في السودان، وعرفت أيضًا الربة هاتور. ومصر هي التي أشاعت نظام الرهبانية بل هناك ما يرجح أن ملابس الكهنة في أيامنا هي نفسها ملابس الكهنة أيام جدودنا الفراعنة.
•••
لقد كان اختراع الحضارة — كما يقول إليوت سمث — أعظم انقلاب حدث في تاريخ البشر، ولم تكن الحضارة الأولى مجموعة ملفقة من المكتشفات وإنما كانت جسمًا حيًّا له قلبان هما الزراعة وإطالة العمر، وكل ما نعرفه عن التواريخ للأمم القديمة كان يدور حول هذين الأمرين، فمنهما نشأت الأديان والحكومات والملوكية والأسرة والقضاء وعلوم الهندسة والهيئة والكيمياء والطب، كما كانا أيضًا الأصل في طائفة كبيرة من الصناعات مثل الفخار والبناء والتعدين والنجارة وصنع السفن ونسج الأقمشة وتخمير البيرة.
لقد قال بلونارك المؤرخ الإغريقي، وهو بالطبع يروي هنا أسطورة كانت شائعة في عصره: «لما جاء أوزوريس إلى مملكته وجد المصريين يعيشون حياة كتلك التي يعيشها الدواب، فعمد إليهم يعلمهم فنون الزراعة وسن لهم القوانين وعلمهم عبادة الآلهة، ثم خرج بعد ذلك وجاب أنحاء العالم ينشر المدنية».
وهذه الأسطورة لم تكن روايتها عبثًا ولم تُخْتَرَعْ أيام الإغريق، وإنما هي قصة مصرية قديمة تدل على تاريخ يغيب في الأزمنة البعيدة.
وليس أوزوريس هذا سوى أحد الفراعنة أو الأمراء الأولين الذين استحالوا آلهة بعد وفاتهم، كما هو الشأن إلى الآن بين الكهنة والأمراء الزنوج الذين ورثوا التقاليد المصرية القديمة.
وكان المصريون يعيشون كالدواب لأنهم كانوا يجهلون الزراعة ويجهلون كل ما نما منها كالحكومة والقضاء والصناعات العديدة، وعَزْوُ إفشاء الحضارة في العالم إلى أوزوريس لا يعني أكثر من القول بأن المصريين هم الذين أفشوها.
وليس في العالم الآن رجل يمكنه أن يضارع برستد في سعة ثقافته ونزاهته العلمية، ومع ذلك يقول هذا العالم: «لقد ثبتت هذه الحقيقة العلمية ثبوتًا نهائيًّا وهي أن الحضارة نشأت أولًا في مصر».
•••
هذا التاريخ المصري القديم يجب أن ندرسه؛ لأننا بدرسه نغذو وطنيتنا بأحسن ما تُغذَى به، وهو الحقائق الحقة التي تبعث في نفوسنا الكبرياء الوطنية وتحثنا على أن نستعيد مركزنا للقيادة في الحضارة كما كان أسلافنا.
وهذا الدرس يغذو غيرتنا للإصلاح، فإننا نحن الذين اخترعنا الكتابة والقراءة للعالم يجب ألَّا نترك فلاحنا يجهلهما بعد ستة آلاف سنة من اختراعهما، ونحن الذين أكثرنا الطعام بالزراعة يجب ألَّا نجيع الفلاح أو العامل المصري في عصر قد شبِع فيه جميع الناس بعد ثمانية آلاف سنة من اختراعها، ونحن الذين بنينا أول منزل سكنه إنسان يجب أن نبني المنازل للمصريين الذين يعيشون في مباني لا يرضى الأوروبي أن يدفن فيها موتاه فضلًا عن أحيائه.
مصر التي اخترعت الحضارة يجب أن تتقدم جميع الأمم في هذا الميدان ويجب ألَّا تسمح لأحد لأن يردها إلى الهمجية.