مقدمة
لو كان صحيحًا أن براعة الروائي الصيني مو يان في المزج بين الواقعية السحرية والحكايات الغرائبية المعهودة في التراث الصيني القديم هي المسوِّغ لحصوله على جائزة نوبل في الأدب؛ إذَن لاستحقَّها معه بالتساوي عددٌ من أهم كُتَّاب القصة في جيل ما يُعرف ﺑ «أدب البحث عن الجذور». وهؤلاء كثيرون جدًّا، منهم: ليو سولا، شو شين، تسان شيو، جاهيداوا، هونفن، يو هوا، سوتون، مايوان (قد يقترب هذا الأخير في نطقه مع مو يان، أديب نوبل!) والأساس الإبداعي عندهم جميعًا يقوم على فكرة الانتصار لطاقات الحياة البدائية وكشف الجوهر العبثي للإنسان؛ تنديدًا بضعفه وزَيْف ثقافته الحديثة. والكتابة الروائية عند الكثيرين منهم تُجسِّد إحساسًا بعبثِ الوجود، لكن منابع إلهامهم لم تأتِ مباشرةً من نماذج غربية الطابع، صحيح أنهم استفادوا من الترجمات والمدارس النقدية في الغرب، لكنها استفادة دون نقل! فلم تكُن القصة، حتى في التراث الفكري والأدبي الصيني القديم، محلَّ احتفاء أو استحقاق لجدارة، وكثيرًا ما اعتبرتها الكونفوشية مجرَّد هزل وثرثرة صبيانية (كذا، وبمنطوقها القديم والباقي حتى اليوم، في الصينية، «شياو شو»؛ أي: الكلام التَّافه، الحديث الفارغ) ولم يكُن للكتابة الروائية أن تحتلَّ مكانة مُعتبَرة إلا بما اشتقت من مصادر أسطورية قديمة، بوصفها أقدَم واقع سحري نهلَت منه أجيال الكتابة في أوائل الثمانينيات، حتى قبل أن تجري أقلام المترجمين بنَقل نصوص غارثيا ماركيز، ذلك أن الساحة الأدبية كانت منذ آخِر السبعينيات تبحث عن يقين ضاعَ منها إبَّان الثورة الثقافية … لم يكُن ثمَّة أساتذة (هذه المرة حقًّا وفعلًا … دع عنك ما كان يقوله أستاذنا محمد حافظ رجب، تحت ظروف مختلِفة، بشأن أجيالنا الأدبية في ستينيات الأدب العربي بمصر) فكانت العودة إلى الجذور الثقافية، حتى بمحتواها المتضمِّن لشرائح عريضة ممتدة من التراث الكونفوشي إلى الفولكلوريات الشعبية، فتشكَّلَت ملامح يقين بالأسطورة مُنسجِمة مع تقاليد باقية في المواريث، وكانت «الحداثة» هي الكلمة المفتاح في فَهْم اتجاهات الإبداع، منذ أوائل القرن العشرين، أو هكذا قد يُقال. ثم إن تاريخ الحداثة في الصين يبدأ أيضًا مع حدٍّ زمنيٍّ قاطِع بين زمن قديم انتهى وفات، وعصر جديد بدأ يشق طريقه إليها فيما سُمِّي بحركة الرابع من مايو ١٩١٩م.
لكي نحدِّد موقع مو يان كروائي صيني متميِّز، ونقف على قيمة إبداعه، فمن المفيد أن نستحضر أجواء المرحلة الأدبية التي ينتمي إليها، ونعيِّن صِلتها بمُجمَل حلقات التطوُّر في مسيرة الأدب الصيني المعاصر.
-
فترة ما قبل عام ١٩٥٦م؛ حيث سيكتب الروائي «جاو شو لي» عن أحوال الريف الصيني (قبل أن يولد «مو يان» بنحو أربعة أعوام) ويقدِّم روائع القصة الصينية المعاصرة: «تدوين الأسماء»، «قصة أفسدها المونتاج»، «زوايا الحب المنسية»، «العم شوماو وبناته»، «أهل المعجزات ينزلون القرية»، «على هامش سيرة الغرام»، «تغييرات جبلية»، وكلها كانت تأخذ بمنحًى واقعيٍّ، أسهمَت في تعميقه كتابات مُبدِعين آخَرين ساروا على نفس المنوال، مثل: «ما فنغ»، و«لي جون»، و«جوليبو» … فهؤلاء جميعًا اتَّخذوا موضوعاتهم من قلب الريف الصيني، وبرغم ما حقَّقوه من إنجازات رائعة، فقد كان يُؤخَذ على أعمالهم عجزها عن نحت صور بطولية في زمن شهدَ ملاحم أقدار ريفية لم يرَ التاريخ الصيني مثيلها منذ زمان، مع ضعفٍ في إبراز العالَم الداخلي المُعقَّد للشخصيات، وترهُّل في أساليب السرد.
-
أما ثاني الفترات فيقصد بها بداية الستينيات، حيث سادت أجواء استقرار عام، برغم الظروف الاقتصادية الصعبة، وتمكن السرد الروائي أن يلمح الواقع الموضوعي لمجتمع يحفل بتحوُّلات ويموج بأحوال. وهنا سيبرز دور «قاو شياو شنغ» (الروائي العظيم الذي سيغفل ذكره طويلًا، دون أن ينكر دوره!)؛ حيث سيشترك مع عدد من الكُتَّاب سنة ١٩٥٧م في تأسيس مطبوعة «الاستقصائيون»، لكن يتم استبعادهم من الساحة الأدبية، على خلفية اتهام بأخطاء سياسية، وبعد عشرين عامًا يعود قاو شياو شنغ بقصة «العم شون يبني غرفة»، فتبرز براعته في رسم العالَم النفسي لشخصياته، وتصوير تقلُّباتهم عَبْر أسلوب في الكتابة كان «يمزج حقًّا بين أساليب الكتابة الروائية الصينية التقليدية، ومفاهيم الكتابة الحديثة» (قبل أن تصدر لجنة التحكيم السويدية قرارَ منح الجائزة ﻟ «مو يان»، بتقدير نفس القيمة، وبنصوص قريبة من أحكامها، رغم صدورها عن أقلام النقاد الصينيين، للكاتب «قاو شينغ شنغ» منذ نحو خمسين عامًا تقريبًا!) حتى إنَّ كتابات نقدية كانت تقدر له دورًا مساويًا لأولئك الذين خرج الأدب الصيني الحديث من جَعبتهم، مثل «لو شون» و«جاو شولي».
وقد تأثَّرَت عبثية هذا الجيل من الكتَّاب بفلسفة الحياة عند برغسون، وتحليلات فرويد، وأبرز مَن يمثِّلون هذا التأثُّر اثنان: هونفن، ومو يان، علمًا بأن الأساس في إبداعهم يقوم، في بعضه، على فكرة الانتصار لطاقة الحياة البدائية (الليبيدية) وكشف الجوهر العبثي للإنسان.
«مو يان» جزء — بإبداعه وعبقريته — من مرحلة أدبية تُعرف ﺑ «المعاصرة» (ولو أني أجد من بين الدراسات، تحت يدي، رسالة دكتوراه (بالصينية) غير منشورة، يؤكِّد فيها الباحث الصيني المجتهد خطل الرأي القائل ﺑ «المعاصرة» على نحو مطلق في اصطلاحات النقد الأدبي، «فالمعاصرة فكرة أدبية نقدية تلاحق خطوات الحياة، وليست مجرَّد توصيف جاهز لمرحلة ضمن تاريخ أدبي، فلكلِّ زمنٍ تعريفه المحدَّد والخاص لأدبه المعاصر»، تلك ليست صفة مُطلَقة بل مرهونة، يعني: بخصائص موقعية في زمن معلوم، ولمنطقة ثقافية مُحدَّدة)، ما علينا لو قلنا إن مو يان — بأي معنًى — أحد أبناء جيل له سِماته المشتركة وموقعه وتاريخه، فالفكرة أن الكثير من الدوائر النقدية «غير الناضجة»، بحق، وللغرابة قد رأت في استفادة كاتب صيني من عنصر جمالي عالَمي مجرَّد نقل تام لبضاعة جاهزة ومُعتبَرة، فالذهنية الإبداعية عند مو يان أروع كثيرًا من إيحاءات الفهم حسب هذا التقييم، فإبداعه يملك ملامح وسمات متفرِّدة بشكل واضح، وهو إذ يحاول مثلًا أن يجرِّب تقليد كاتب من أمريكا اللاتينية متأثِّرًا بكتابة «سحرية»، فهو يلجأ — على غير وعي أحيانًا — إلى النهل من مَعِين الحكايات الشعبية، وتبقى «السمة السحرية» بالنسبة له، رغم أي شيء، مفهومًا غريبًا يستوجب الاطلاع الدراسي بهدف التعرُّف والتعريف، لا أكثر. ولمَّا كان عدد من الكتَّاب البارزين ينضوون تحت هذا اللون من الكتابة المتأثرة بمصادر شعبية، فقد حرص مو يان على تأكيد انتمائه لكتلة إبداعية يعرف، تمامًا وبوعي شديد، موقعه ضمن حدودها.
في عالم مو يان الروائي، فإن الخلفية والحدث وفصول الكتابة وطبائع الشخصيات والتعيين الوصفي للبيئة، كل ذلك يتحوَّل إلى سيرورة استجابة عفوية لأحاسيس ذاتية. والفرق بينه وبين باقي الكتاب يتمثَّل في عدم وقوفه طويلًا أمام جذوره الثقافية القديمة يتأملها بلا نهاية، حرصًا على اكتشاف ونشر وتعميم طاقة الحياة المستمدة من الجدود الأقدمين، لذلك فهو يجعل من تاريخ حياة الذين مضوا — منذ زمان بعيد — لحظة بينية تنقضي سريعًا في حاضر مَن يتناولهم السرد، ممَّا يخلق توتُّرًا حادًّا بين الشخصية في القصة والراوي في الحكاية، ومن ثَم فالوعي يمثِّل جسر انتقال، عَبْر الرؤية السحرية، بين الموتى والأحياء، بين الأولاد المعاقين والأبطال الراحلين، فيتخلَّق عالم رابط بين نقيضَين … ومثلًا، ففي رواية «الذرة الرفيعة الحمراء» لا يسعى الكاتب إلى حكاية وقائع الحرب التاريخية، بل يحكي آماله وسط الفراغات البينية التي تخلفها حوارات الفلاحين.
قيل إن لقب «مو يان» يعني الزجر بالصمت، امتثالًا لفضيلة استحسان السكوت في «زمن المتاعب الجاهزة لمَن يتكلَّمون»، وأظن أن الزجر يرجع إلى تلك الفكرة القديمة عن صنَّاع القصة القصيرة بأنهم ثرثارون بما لا يفيد، فالكتابة أوقَع، والرواية أبقى، ولئن كان لقبه — بهذا المعنى — يفيد احتفاءه بكتابة الرواية، فإن أحدًا لم يقُل لنا ماذا يعني اسمه الأصلي … «كوان مو يا»!
لست بالأساس أو بالتخصُّص دارسًا للأدب الصيني (أو أي أدب آخَر … معذرة!)، فلست إلا باحثًا لغويًّا، أحاول التخصُّص في مجال التراث الصيني القديم، ولم يكُن لي أن أخوض بقلمي في مجالٍ لا أملك فَهْم قواعده ومنهاجه وخصائص موضوعاته، فأعتذر لقارئي في ترجمات التراث الصيني، وأرجو أن يتفضَّل متسامحًا كريمًا بتقدير ظَرف لم يكُن فيه ثمَّة مفر من ضرورة التعريف بكاتب، كان حتى وقت قريب غير معروف حتى لمعظم قرَّائه الصينيين، على أن أعود لاحقًا إلى مواصلة ترجمة المصادر التراثية الأساسية في الحضارة الصينية.
وعلى كلِّ حال، فقد اخترتُ أن أقدِّم للقارئ، في اللغة العربية، ومن بين الأعمال الروائية لمو يان، رواية «الثور». ولأسباب كثيرة كانت هذه الرواية تفرض نفسها في ظروف كانت تتطلَّب تقديم مو يان إلى القارئ العربي، من لغة المصدر مباشرة، وفي توقيت معاصر أو تالٍ مباشرة لحصول الكاتب على نوبل في الأدب لعام ٢٠١٢م، ومن ثَم كان هذا النص الروائي أقرب الأعمال الإبداعية تلبية لهذا التصوُّر، هذا فضلًا عن أنه نموذج سردي ينسجم تمامًا مع خصائص الكتابة كما عرفناها في معظم إبداعات جيل «الفترة الجديدة»، ولو أن جانبًا من سِمات «أدب الجراح» يتجلَّى بوضوح في ذلك التنديد الصارخ بأجواء المحنة العاصفة التي هزَّت المجتمع الصيني في ظِل الثورة الثقافية. (وهنا، فربما كان من الضروري الإشارة إلى أنَّ تقييمًا عادلًا لآثار «الثورة الثقافية الكبرى» التي شهدتها الصين، منذ منتصف الستينيات حتى منتصف السبعينيات، سيبقى رهن المستقبل لفترة طويلة، فلم يكُن هناك — حتى الآن — إلا وجهات نظر، وأحكام مبتسرة، ومواقف مُطلَقة تمتثل لضرورات عملية تراها الصين مُحقِّقة لآمالها في التطوُّر، لكن، وبرغم التقييم السلبي المعهود لآثار الثورة الثقافية، فقد كانت تلك الثورة، في زمانها، أملًا يصبو إلى التحوُّل من المرحلة الاشتراكية إلى الشيوعية، في محاولة لتقليل فَجْوة التفاوتات، بين حجم الإمكانات السياسية والاقتصادية والثقافية، باعتبارها تناقضات تستوجب الحلَّ الحاسم عَبْر الحملات السياسية والنضال الشاق؛ لتمكين الجماهير من السيطرة على مقدرات حياتها، وربما كانت تلك الفترة، برغم كلِّ ما يُشاع، هي التي أتاحت ظروف تحوُّل ثوري أشبه بالمعجزات، فقد تحقَّقَت للمرأة الصينية مكانتها باعتبارها «نصف الأرض والسماء»، بعد عهود من العبودية، وأُتيح لملايين الفلاحين الفقراء الالتحاق بمراحل التعليم فوق المتوسط والجامعي … إلخ.) لكن الروائي يكتب هنا تاريخًا نفسيًّا لمحنة قرويين يضطرون إلى التجوُّل طَوال النهار والليل بثور أُجريت له عملية إخصاء، تحت ضغط موارد شحيحة لا تكفي لتلبية احتياجات مزارع المواشي، وتتفاقم الأوضاع سوءًا مع إصابة الثور بمرض مُعدٍ، حتى تطال المحنة عددًا هائلًا من القرويين في ذروة المشهد القصصي، فالنص يصوِّر أجواء محنة، في وقت شهد ندرة موارد العيش، لكن مورد الكتابة لم ينقطع، وبقيت الكلمة أهم عنصر في تسجيل أسطورة البقاء. وكان مو يان قد أشار، عرَضًا، إلى هذا النص في ثنايا حديثه أمام الأكاديمية السويدية خلال حفل استلام الجائزة؛ حيث قال: «كنت أفهم ما اعترى والدتي من قلق وهواجس، لأن صبيًّا تعوَّد الثرثرة مثلي سيُصبح سببًا لجلب المتاعب والمضايقات، ليس على نفسه فقط وإنما على أفراد عائلته في القرية أيضًا، ومن ثَم كانت خلفية السرد في رواية «الثور» تشتق تصوُّراتها من فكرة ما سيقع على رأس الولد من مصائب جمَّة، بسبب ميله إلى الفضول وانفراط اللسان. وكم نصحتني أمي بالتعقُّل والتزام الصمت، لكنَّ أقداري كانت تسير بي عكس أمانيها، وذلك لِما جُبلتُ عليه من شغف بهذر القول وتضلع في المماراة واللجاج، وبلا شك فقد كان ذلك مكمن خطر، ولو أن شيئًا من المقدرة على الحكي كان يُدخل السعادة إلى قلب أمه، فمن هنا تشكَّل إحساسه بالتناقض والحيرة.»
من واقع تجربة عاشها مو يان، كتب فصول «الثور»، ومن خيال مُشبَع بتقاليد الحكي العجائبي في تراث القصِّ الصيني، كان الولد «روهان» في الرواية، يحاور الثيران ويتعاطف مع مأساتها، مندِّدًا بهمجية المسئولين، وعبث الظروف التي فرضت على جيل بأكمله أن يبقى ساهرًا طَوال مسيرة شاقة، مواصلًا الليل بالنهار، وهو يحرس ثمارًا معطوبة … لكنه (مو يان يعني) يقتحم إسار الصمت ويُثرثر طويلًا، ويقتحم حدودًا كانت مفروضة عليه قسرًا (هكذا يتصوَّر!) في مواجهة جمع حاشد يضيق ذرعًا بكلماته وعفوية تعليقاته الصبيانية التي تنكأ مواطن جرح عميق، وتُلمح إلى بواطن مأساة وملابسات جرائم كاملة، ولو أنها لا تشير جهارًا إلى رءوس منسر، ولا تمنح الطيبين شهادة عرفان، وإنما تتوسَّل بالسرد في تلمُّس مفاصل وقائع عبثية، لتكتب تاريخ بقاء لمَن وقفوا دون عتبات التدوين الرسمي، ولو أنهم كانوا من صنَّاع التاريخ، في حقبة ما.
أما عن الكاتب، مو يان، فلم يكُن من حظي أن أتعرَّف إليه عن قرب، إلا بشكل عابر جدًّا ولدقائق قليلة. كان ذلك أثناء المؤتمر الدولي الثاني للمترجمين الأجانب وخبراء الثقافة الصينية، وقد سعدتُ بحضوره، بناءً على دعوة من اتحاد كتَّاب الصين، في الثلث الأخير من أغسطس ٢٠١٢م ببكين، أي قبل حصوله على الجائزة بنحو الشهرين، ولا أذكر من تفاصيل اللقاء إلا أنه كان يؤكِّد على أهمية تكثيف جهود الترجمة الأدبية عن الصينية إلى منطقتَين تُعانيان نقصًا حادًّا في التعريف بالأدب الصيني: المنطقة العربية، وأمريكا اللاتينية، وذلك في كلمة ألقاها بوصفه نائب رئيس اتحاد الكتَّاب. ولا شك أن مو يان يُعتبر أحد أهم كتاب الرواية الصينية في ساحة الإبداع الصيني، منذ منتصف التسعينيات، وحصوله على الجائزة جاء متأخرًا جدًّا، ولأسباب تبعد كثيرًا عمَّا يُشاع من مواءمات تتلوَّن بانحيازات سياسية أو فكرية ما، ومن بين هذه الأسباب افتقاد خبرة التقييم المؤهلة بمعرفة وثيقة باللغة الصينية وآدابها، ولولا انضمام واحد مثل «مايوران» — بخبرته وثقله ومعرفته وتاريخه في شئون الثقافة الصينية — إلى لجنة التحكيم في الأكاديمية السويدية، لبقيت الجائزة في وادٍ بعيد عن تقدير قيمة الكتابة الروائية في الأدب الصيني.
صحيح أني لم أتعرَّف إلى مو يان عن قرب، لكني عرفت وقابلت آخَرين أظنهم يقفون على أرض إبداع روائي بقدم راسخة وعود أصلَب، كان هناك آخَرون يمثِّلون علامات مرموقة في الرواية: ليو جنوين، شيو كون، تيه نينيغ (الكاتبة، رئيسة اتحاد الكتَّاب) و«يو هوا» صديقنا الروائي المبدع، الذي صادف أول أيام زيارته للقاهرة وقوع أحداث ثورة يناير ٢٠١١م، فعاد إلى بكين وقد نسي حقائبه في فنادق القاهرة المشتعلة تحت الغضب! وفي أجيال الكتابة الروائية المعاصرة، ثمَّة كثيرون أسهموا في إبداع علامات فارقة في الرواية الصينية، كلهم من أجيال الفترة الجديدة التي تحرَّرت من أثقال الأمس (… لتعود إلى ما قبل أمس!) فلنقُل إذَن، تواصل الكتابة من نقطة تربطها بلحظة انعتاق الكتابة من أغلال التقاليد … ساعة أن استشرفت الرواية الصينية آفاق عصر جديد، في مطلع القرن العشرين.
هذا عن الرواية والكاتب والجيل الأدبي، فماذا عن الترجمة؟ ليس ثمَّة ما يُقال هنالك سوى أن هذه الترجمة مجرَّد قراءة، أو قُل إنها شهادة تجربة معايشة ثقافية ونقدية مع نص روائي، لا تغلق الباب دون أية رؤية أخرى، من مصادر ترجمية متعدِّدة، بما فيها النصوص المنقولة عَبْر لغات وسيطة، غير لغة الأصل. وقد درجت المؤسسات والهيئات الترجمية عندنا في العالم العربي على التوصية بعدم تكرار الترجمات، كأن النص المترجم خاتمة مطاف أو لوح أسرار، أو واقعة إلهام صوفي على قلب قطب نوراني، وإنما الترجمة، أي ترجمة، ليست إلا قراءة من زاوية معجمية وثقافية ونقدية، يحدُّها أفق التلقِّي، وتحصرها أهداف وآليات التواصل في فضاء مُحدَّد، وبمفاهيم وتصوُّرات تخضع سلفًا لمقتضيات نشر وحركة سوق، وقابلية قراءة، وتفاعل جمهور، وشروط ساحة نقد، وذهنية مجتمع ثقافي، وخصوصية لحظة تتقاطع مع مناخات اجتماعية-سياسية متباينة في طريقة صياغتها لذائقة عصرها ومجتمعاتها … فلا معدًى من أن تتعدَّد الترجمات ورؤى أصحابها ومعالجاتهم للنصوص في مصادرها المختلفة. فليست هذه الترجمة، التي بين يدي القارئ، إلا مجرَّد معالجة للنص الأدبي المعروف في أصله الصيني بعنوان «الثور»، لم يكُن لمترجمها سوى محاولة النَّقْل عَبْر القراءة الثقافية لأحوال النص وظروف إنتاجه وأفكار كاتبه، لكن النص المترجم، وحسب المفاهيم النظرية الحديثة، لم يكُن ينبغي له أن يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى تقدير مقروئيته وأفق التواصل معه في مناخ ثقافي مغاير وهو المنحى الذي ما كان له أن يثمر شيئًا إلا بفضل كثيرين جدًّا شاركوا في عملية إنتاج هذا النص المُترجم، على النحو الذي يجده القارئ بين يدَيه الآن.
فقد كان للصديق الأستاذ محمد إبراهيم مبروك (القاص والمترجم عن الإسبانية) الفضل في مراجعة النص المترجم، في مسودته الأولى، وإبداء ملاحظات وإضاءات ذات قيمة، ولئن كان المترجم قد استطاع أن يبدِّد بعض الرطانة الصينية عن النص المترجم، فقد كان للأستاذ محمد مبروك الفضل في تخليصه من شوائب رطانة صينية بقيت في ثناياه، تتحدَّى الفصاحة وتتهدَّد سبل البيان الرائق، بل لم يكُن ممكنًا الدفع بالنص المترجم إلى النشر، إلا بفضل الحماس الذي أبدَتْه الأستاذة مريم البنا، الصحفية بالأهرام (ملحق الجمعة) لترجمة هذه الرواية، وذلك في ثنايا تقديرها لقيمة النص الأصلي وتلمُّسها لتشكيلة الخصائص الإنسانية التي تميِّز هذا النمط من الكتابة الأدبية الصينية، وكان الملفت هو ترادف هذا التقدير مع ما ركزت عليه بعض التعليقات الأدبية الصينية، على هذه الرواية بالذات، في سياق التناول النقدي للرواية القصيرة عند مو يان. كما لا يمكن، في هذا السياق، إغفال ما قامت به الأستاذة الدكتورة تشن دونغ يون، المستشار الثقافي بسفارة الصين بالقاهرة، من جهد في سبيل توفير مادة النص في لغته الأصلية، ومرفقاته من المصادر البحثية والكتابات النقدية التي استقيت منها موضوع الكتابة في هذه المقدمة، خصوصًا في وقتٍ لم تكُن مكتبات القسم العلمي في كليتنا تتوافر على نصوص أدبية ﻟ «مو يان»، في مصادرها الأصلية. ولا بد أن أذكر هنا، بكل العرفان، ما قام به السيد ليو شي بينغ، المدير التنفيذي بالمركز الثقافي الصيني بالقاهرة، من جهد مشكور في توضيح ما لم أستطِع إدراكه من سياقات لغوية ثقافية في النص الأصلي، وذلك لاستغراقها في التعبيرات ذات الخصوصية المحلية الصينية، فكان سيادته خير مُعين لي في استقصاء مدلولاتها.
وفي الختام، الذي هو بدء مصائر الكلمات، يبقى لك أنت، سيدي القارئ، الفضل في استنهاض المعنى، فبيدك أعنَّةُ النصوص، وإليك تذهب غاياتها، فابقَ بمجدٍ ما بقيت الكلمة.
القاهرة في نوفمبر ٢٠١٢م