خطاب مُو يان
حضرات الأعضاء في الأكاديمية السويدية، السيدات والسادة!
أتصوَّر أنَّ الحاضرين هنا يعرفون النذر اليسير، عَبْر التلفاز أو شبكات الإنترنت، عن بلدة «كاومي» البعيدة في أقصى شمال شرق الصين. ولعلَّ بعضًا من حضراتكم قد سمحت له الظروف بأن يرى أبي الذي شارف من العمر عامه التسعين، أو ربما شاهد أحدًا من إخوتي أو أخواتي الكبار، أو زوجتي وابنتي، أو حتى حفيدتي التي أكملت من عمرها عامها الأول، لكنَّ أحدًا لم يرَ الشخص الذي أشتاق إليه هذه اللحظة، ولا أظن أنَّ بإمكان أي فرد أن يراها رَأْي العين أبدًا … إنَّها أمي. وقد أُتيح لكثيرين أن يشاركوني شرف الحصول على الجائزة، لكن أمي لن يُتاح لها أبدًا أن تُشاركني هذا الشرف.
وُلدَت أمي في ١٩٢٢م، وتُوفِّيت في ١٩٩٤م. ومنذ هذا التاريخ بقي رفاتها مدفونًا في شرقي قريتنا، بالقرب من إحدى حدائق الخوخ. ولمَّا تقرَّر — في العام الماضي — أن يمتدَّ شريط للسكك الحديدية عَبْر المنطقة التي دُفنت فيها والدتي، فقد اضطررنا إلى نقل مقبرتها إلى أبعَد موضع من القرية. فلمَّا أزحنا التراب عن مدفنها، وجدنا التابوت قد تهرَّأ تمامًا، وبدا الهيكل الجسدي مختلطًا بالطين، بل قد صار جزءًا من كتلة الأرض حوله، فلم نملك إلَّا أن نحفر قطعة من الرمال والطين الدبق، باعتبار أنَّها تُمثِّل الرفات، على نحو رمزي لا غير، ونقلناها إلى المقبرة الجديدة. ومنذ تلك اللحظة وأنا أعتبر أنَّ الأم قد صارت جزءًا من الأرض، أو أنَّ الأرض أصبحت هي الجزء المتبقي من والدتي، فكل بوح لي فوق الأرض، ليس إلَّا مناجاة لأمي.
لم يعُد يتبقَّى في ذاكرتي من أحداث سنوات العمر الأولى إلَّا منظر إناء كبير كنت أهرع به إلى المطعم الشعبي كي أملأه بالماء. ولمَّا كان الهزال قد بلغ بي مبلغه، فلم أقوَ على حمل الإناء، فسقط في عرض الطريق وتهشَّم، وارتعدت مفاصلي هلعًا، فلم أستطِع العودة إلى البيت، واختبأت وسط كومة حشائش طيلة النهار. وفي أول المساء، سمعت صوت أمي تناديني باسمي الذي كانت تُدلِّلني به، فخرجت من مخبئي، وتوقَّعتُ أن أتعرَّض لقدرٍ من التوبيخ أو العقاب البدني، غير أنَّ أمي لم تُقدِم على شيء من هذا، بل راحت تربت على رأسي، وملء آذاني كنت أسمع زفرات صدرها.
من أكثر الذكريات إيلامًا، ما وقع لي في طفولتي، عندما اصطحبتني أمي معها إلى إحدى المزارع الجماعية؛ حيث انهمكت في حصاد القمح. فبينما هي مشغولة بذلك، ظهر أمامنا المُشرف الزراعي فجأةً، فسارع صغار الفلاحين بالفرار، خشية بطشه، ولم تكُن أمي تستطيع الجري بنفس سرعتهم، فلحق بها، وكان قويَّ البدن، هائل الجرم، ورفع كفَّه عاليًا وصفعها بكل قوته، فارتجَّ جسدها وسقطت أرضًا. فما كان من المُشرف إلَّا أن صادر حصيلتها من الحصاد، ومضى في طريقه هادئًا، يُطلق صفير الألحان. وعلى الأرض، كانت أمي جالسة تُعالج نزيف الدم المحتشد بجانب فمها، وعلى وجهها ملامح انكسار، لن تزايل ذاكرتي ما حييت. والتقيت بهذا المُشرف نفسه، بعد سنوات طويلة، وقد نالت منه الأيام وتقدَّم به العمر واشتعل منه الرأس شيبًا. كنَّا قد التقينا به على قارعة طريق، وسط سوق بلدتنا، فهممت بأن أبطش به، لولا أن حالت أمي بيني وبينه، قائلةً لي بهدوء: «اكفف يدك عنه يا ولدي، فشتَّان بين مَن ضربَني يومئذٍ، وبين مَن تراه الآن.»
من بين ما أذكره أيضًا أمرٌ كان له أبلَغ الأثَر في نفسي؛ إذ كنَّا قد أعدَدْنا وجبة «جياو تسي» ظهيرة أحد الأيام، احتفالًا بعيد منتصف الخريف، وكانت وجبة عامرة قلَّما أتاحت لنا الظروف الاستمتاع بمثلها. ولم يزِد نصيب كل فرد في بيتنا على طبق واحد لا غير. فما إنْ جلسنا إلى المائدة وتهيَّأنا للطعام حتى دقَّ البابَ شحَّاذٌ طاعن في السن، فأردتُ أن أصرفه بإحدى ثمار البطاطا الحلوة، إلَّا أنَّه هتف بي متذمِّرًا: «كيف ترضون لي بقطعة ضئيلة من البطاطا، في حين تأكلون اﻟ «جياو تسي»، أين القلوب الرحيمة؟»، فلم أتمالك نفسي من الانفعال، ورددتُ عليه قائلًا: «نحن قد يمرُّ علينا العام بطوله، دون أن نشم رائحة اﻟ «جياو تسي». وحتى عندما يُتاح لنا أن نصنع منه شيئًا قليلًا، فلا يطول الواحد منَّا سوى طبق صغير لا يشبع جوعه! وها قد أعطيتك البطاطا الحلوة وفيها كفايتك، فإنْ لم تعجبك فامضِ بعيدًا لشأنك ولا توجع رءوسنا!» واستاءت والدتي من طريقتي في الرد على المسكين، وأنحت عليَّ باللائمة، وأسرعت لتُفرغ طبقها كله في مخلاة الرجل!
ولم أندم في حياتي كلها قَدْر ندمي على ما بدرَ مني ذات يوم من أيام صباي؛ إذ كنت قد ذهبتُ مع أمي إلى السوق لكي نبيع كمية من الخضراوات، وحدَثَ أنِّي، ودون قصد، غاليتُ في السعر مقدار «جياو» واحد (نحو عشرة قروش)، وذهبت بعد إتمام عملية البيع إلى المدرسة. فلمَّا عُدت إلى البيت بعد انتهاء الحصص، لاحظت أنَّ وجه الأم غارق في الأسى والدموع، ودون أن تُوجِّه إليَّ أية انتقادات أو تعليقات جارحة، راحت تقول لي بروح متسامحة للغاية: «صحيح أنَّ ما فعلته اليوم وضعني في حرَج بالِغ، لكن لا عليك من كل هذه الأشياء!»
ما كدت أبلغ التاسعة عشرة من عمري، حتى أُصيبَت أمي بمرض السُّل، فلم يلبث البيت كله أنْ وقع في إسار الجوع والضِّيق والمشقة، حتى ضاقت بنا سُبل العيش، ولم يكُن ثمَّة بصيص من الأمل. وسيطرت على أفكاري وقتئذٍ وساوس غريبة صوَّرت لي أنَّ أمي قد تلجأ إلى الانتحار، فكنت كلَّما عدت إلى البيت، بنهاية وقت الدوام، أهرع إلى الغرف الداخلية، أنادي عليها، حتى إذا أجابتني وتأكَّدت من وجودها، تبدَّدت من صدري أثقال الخوف، أمَّا إذا لم أجِد لها صوتًا، فقد كان قلبي يرتجف هلعًا، فأظلُّ أجوب البيت: في المطبخ تارة، وفي غرفة الطحين تارة أخرى؛ بحثًا عنها. وذات مرَّة ظللتُ أجوب الغرف والدهاليز، ألتمس وجودها دون جدوى، فارتميت وسط الحوش أبكي. وفي تلك اللحظة، كانت قد انتهت من جمع بعض الحشائش خارج الدار، ودخلَت من البوابة الكبيرة وعبرَت من ورائي، دون أن أشعر بها. فلمَّا رأتني أبكي، تحسَّرَت على أحوالي، ولم أشأ أن أخبرها عمَّا اعتلج به صدري. بيد أنَّها سبرت أغواري، وقالت لي: «اطمئن يا بُني، فمهما حرمتني الحياة من السعادة، فلن أفكِّر في الرحيل عنها بإرادتي، بل سأنتظر إرادة ملك الموت.»
وُلدتُ دميم الخلقة، فكان أهل القرية يلقونني ساخرين من شكلي، وكنت أثناء سنوات الدراسة أتعرَّض من جرَّاء ذلك للبطش والإهانة على يد زملائي المشاغبين، فكنت أعود إلى البيت كاسِف البال، فتلقاني أمي وتقول لي: «دعك من هذا الكلام الفارغ … لستَ دميمًا بحال، ثم إنَّك لا تنقص عن أحد أنفًا ولا عينًا، جسمك سليم وأعضاؤك كاملة، فأين المشكلة؟! وما دام قلبك عامرًا بالنوايا الطيبة، ويدك معطاءة بالخير، فستكون أجمل واحد في الدنيا، حتى لو لم يكُن لك حظ من وَسَامة!» بل إنَّني — عندما استقررت بالمدينة فيما بعد — لاحظتُ أنَّ عددًا ممَّن يُقال بأنَّهم مستنيرون، وعلى قَدْر رفيع من الثقافة، يسخرون من ملامح وجهي، فمنهم مَن كان يجهر بملاحظاته أمامي، ومنهم مَن كان يُخفيها دوني، فكنت أتذكَّر قول والدتي، وألتمس للتعليقات أعذارها.
لم تكُن الوالدة تقرأ ولا تكتب، بَيْد أنَّها كانت تُبجِّل المتعلمين والدارسين، كأحسن ما يكون التبجيل والاحترام. وبرغم ظروف حياتنا القاسية، فلم تكُن تصمُّ آذانها عمَّا أطلبه من كتب وأقلام. لم أرَ في حياتي شخصًا يُحب الدأب والمثابرة مثلها، ومن ناحيتها، فلم تكُن تبغض شيئًا في الدنيا مثل الكسالى والمُسوِّفين، سوى مَن كان يقعد عن عمله؛ رغبةً في تحصيل علم أو مُطالَعة درس.
في وقتٍ ما، كان يفِد علينا من الأسواق العامة الرواةُ والقصَّاصون للسِّيَر الشعبية، فكنتُ أُسرِع إلى حلقاتهم وأجلس متخفِّيًا في ركن، أستمع لفصول من الحكايا والقصص، غافلًا عمَّا كنتُ مُكلَّفًا بعمله، فكانت تُنحي عليَّ باللائمة. وعندما تجلس تحت ضوء مصباح شحيح الزيت، في الليالي الطويلة، تحيك ثوبًا أو ترتِّق أردية، كنت أنتهز الفرصة فأقصُّ عليها ما سمعته في حلقات الرواة الشعبيين، وهو ما لم تكُن تستسيغه أول الأمر؛ لاعتقادها بأنَّ الرواة ليسوا إلَّا طائفة ممَّن يرتزقون بألسنة الكذب وأفواه الخرافة، من باب التكسُّب بالأقاويل، دون جهد مُثمِر خلَّاق. غير أنَّها كانت، بمرور الوقت، تُنصِت مليًّا إلى ما أنقله لها من حكايات، حتى لاحظت أنَّها كانت تعفيني من المهام الشاقة كلما حان يوم التسوُّق، في موافقة ضمنية على ذهابي إلى منتديات الرواة والحكَّائين، ومن جانبي، فقد حرصتُ على أن أردَّ لها الجميل بأن أضيف إلى ما أُعيده على آذانها من السير نتفًا من خيال، وبعضًا من وقائع في ثنايا الحكي، ولم تكُن الذاكرة تضنُّ عليَّ وقت الحاجة.
لم ألبث أنْ ضقتُ ذرعًا بفكرة النقل المباشر لِما أسمعه من الرواة، فكنت أعمد إلى زيادة رقعة الحكايات بشيء من الوشي في أهداب التفاصيل، وكثيرًا ما كنت أبتكر من عندي فصولًا ومشاهد أتخلَّل بها نسيج القصص، وأحيانًا كنت أضع حبكة روائية مختلفة، وأصنع خاتمة مغايرة. ولم يقتصر جمهور المستمعين إلى حكاياتي على الوالدة فقط، وإنَّما امتدَّ ليشمل أختي الكبرى وعمتي والجدة. وكلَّما انتهيت من حكاية، كانت أمي تنظر إليَّ وملامحها مُثقَلة بالهموم، كأنَّها تريد أن تقول لي: «وماذا بعدُ يا ولدي؟ ماذا عندما تكبر؟ وكيف سيصير مستقبلك؟ أمعقول أن تصبح واحدًا من أولئك الحكائين المرتزقين بأفواههم في الساحات؟ وهل تضمن عيشك بهذا؟»
يقول المثل السائر: «قد تتزحزح الجبال الراسيات، ولا تتبدَّل الخصال والسمات، ولربما يتحوَّل مجرى نهر، دون أن يحيد جَرَيان طبع!» فكثيرًا ما حاول والداي، بعزم وإصرار، أن يُسديا لي النصح، دون أن يُبدِّل ذلك شيئًا من غلبة طبع الحكي في أعماقي، وهو ما لا يستقيم مع اللقب «مو يان» (الساكت) الذي يُعَد ضربًا من السخرية أو المنابذة اللاذعة!
توقَّفتُ عن الدراسة قبل إتمام المرحلة الابتدائية، ولم يكُن هناك ما أفعله بعد هذا سوى أن أرعى قطعان الماشية، خصوصًا أنِّي لم أكُن أستطيع القيام بأعمال تتطلَّب جهدًا عضليًّا، بسبب صغر سني وهشاشة بنيتي، ولطالما قادتني الخُطى إلى منطقة عشبية أمام بوابة المدرسة، فكنت ألمح من بعيد زملاء الدراسة السابقين، وهم يمرحون في الفناء، فتمتلئ نفسي حسرةً، وينتابني شعور بالوحدة. حتى وأنا طفل، كُنت أعاني مرارة الشعور بالوحدة إثر مفارقة جماعة الأقران.
في المراعي، كنت أُطلق للمواشي العنان، تمرح وسط العشب على هواها، فوق حقول ممتدة حتى آخِر الأفق، والسماء فوقنا شطآنها فيروز، وصفحتها بحور اللَّازَوَرْد، وليس في الأنحاء حس ولا حركة، إلا شقشقة طيور. والعزلة تضرب بأطنابها من حولي، وبأعماقي خلاء واسع المدى. كنت أستلقي على ظهري، أحيانًا، وأرقب الغيم الأبيض عالقًا بالأجواء، يتسحَّب في تراخٍ، فيغرق رأسي في بحار الخيال، وتجمح بي الصور جموح أحلام طافرة … وكانت حكايا بلدتنا تموج بخرافات شتَّى، من بينها خرافة قديمة عن ثعالب تنقلب في عين الرائي إلى حسناوات وبنات خدور، فِتنتُهن شَرَك، ولَحظُهن مصائد عشاق، فبدا لعيني — بمرأى خيالات الصحو — أن لو نزل عليَّ من رُبى الخيال أحد تلك الثعالب المسحورة، وانقلب في عيني فتاةً أنظرها وأتملَّى فيها، إذَن لصارت لي رفيق أوقات، تُبدِّد وحشة تجوالي وحيدًا وسط المراعي. بيد أنَّ شيئًا من ذلك لم يقع. غير أنِّي لمحتُ ذات مرَّة ثعلبًا ذا فراء أحمر قانٍ، يتوثَّب بين العشب، ويمرق سريعًا في الخلاء، فتراجعتُ حتى وقعت على الأرض مفزوعًا، وبقيت مكاني وقد انتابتني الرجفة، حتى بعد أن غاب الثعلب وراء المدى. كثيرًا ما كنت أُقعي بجوار الثيران، فأتأمَّل لمعان عيونها، وأنظر إلى صورتي المنعكسة فوق أحداقها، وأنشغل بالساعات الطويلة في تقليد زقزقة الطيور، آملًا الاهتداء إلى أسرار رطانتها، عسى أن أُحاورها، فتدور بيننا الأحاديث وتتصل عُرى التفاهم، وتنفك حُبسة العي بين الطير والإنسان. وحدث — في بعض المرات — أنْ ناجيت إحدى الأشجار وبثثتها شكواي. وبرغم كل هذا، فلا الطير حادثني ولا الشجر واساني. وانقضت سنواتٌ شققت بعدها طريقي إلى الكتابة، ودوَّنت فوق الأسطر عددًا يفوق الحصر من تلك الصور الخيالية التي تراءت لي وسط المراعي، ولقد يقول بعضهم بأنَّ ثمَّة «فانتازيا» وشطحات صور عجائبية، بكثرة وافرة، في ثنايا ما أكتب، حتى كلَّمني بعض هواة الأدب في هذا، على أمل أن أكشف لهم عن سر ذلك المخزون الهائل من العجائبيات والخيالات الجامحة، ولم أكُن أملك إلَّا الرد بابتسامة مُتكلَّفة … مريرة إلى حد التعاسة.
يُؤثَر عن الحكيم الصيني القديم، لاو تسو، قوله: «كثيرًا ما تنطوي الأتراح على بواطن فرح، مثلما يأتي رِكاب السعادة تتبعه مواكب شقاء.» وربما كان يَصدُق على حالي شيءٌ من هذا القول، فقد حُرمتُ من مواصلة الدراسة في طفولتي، وبقيتُ طويلًا في إسار الجوع والوحدة فلم يتيسَّر لي شراء الكتب، فقُدِّر لي أن أسلك على غرار أحد الكُتَّاب الصينيين ممَّن سبقوا جيلي، وهو «شن تسونغ وين»؛ حيث لم يكُن أمامه إلَّا أن يُطالع كتاب الحياة الاجتماعية، بوقائعه الملموسة عن قرب. وهكذا، فقد وجدتُ في رواة السير الشعبية المتجولين في الأسواق صفحة أُطالع فيها مفردات الحياة.
بعد الحرمان من الدراسة، اندسستُ وسط معترك الحياة، وأضحت أذناي هي وسيلتي الحية في القراءة، وبهذا النمط من القراءة بدأتُ مشوار حياة. ولم يكُن غريبًا على قريتنا أن تُلهم كثيرين بالمقدرة على الحكي، فقد سبق أن أنجبت هذه البلدة عينها، منذ أكثر من مائتَي عام، أحد أعظم كُتَّاب الرواية في تاريخ الصين، وهو الكاتب «بو سونلين» الذي كنت، مع كثيرين غيري في القرية، أعدُّ نفسي وريث حِرفته. ولطالما كنت أفتح أذنيَّ، سواء كنت في المزارع الجماعية أم تحت سقيفة الأبقار وحظائر الخيل، أم فوق الكانغ (الكنبة الريفية) الدافئ، أم حتى فوق عربات تجرها الثيران، كنت أنصت بكياني كله إلى السِّيَر والروايات الشعبية، وحكايات الخوارق والمُعجزات والملاحم التاريخية، والنوادر والطرائف. وكانت كلها عبارة عن مادة روائية مرتبطة بأرضنا، مثلها في ذلك مثل الظواهر الطبيعية وتقاليد حياتنا الاجتماعية، فكانت خصائص الحكي، هي ذاتها مفردات الواقعية كما لمسناها بأحاسيسنا.
لم أكُن يومئذٍ أتوقَّع — حتى في أكثر الأحلام جموحًا — أن تدخل تلك المواد القصصية ضمن نسيج كتابة روائية، إذ لم يكُن يملك عليَّ حواسي، في ذلك الوقت، سوى الإنصات مليًّا إلى الرواة والحكائين، وكنت أومن بعالَم الروح والإله، وبأنَّ للمخلوقات روحًا واعية، حتى إذا صادفت شجرات باسقات عظيمة الأفرع، وقفت قبالتها في خشوع. وكلَّما لمحت طائرًا يُحلِّق في فضاء، أدركت بحسٍّ غريزي أنَّه سيدخل إهاب إنسان، ويتحوَّل يومًا إلى بشر يسعى مثل باقي الناس. وإذا لقيتُ بمحض مصادفة شخصًا مجهول الهُوية، شككتُ في أنَّه مظهر جسدي لروح دابة من الدواب. هذا … بينما أثناء عودتي آخِر الليل من عملي بمكتب الأشغال التابع للوحدة الإنتاجية، كانت تنتابُني مشاعر الذعر، فأقاومها بالصفير والغناء والهرولة فوق دروب حالكة المسير، وكنت أيامها في سِنِي النضج والمراهقة، وصوتي يمرُّ بعتبات متباينة الرنين، وتغلب عليه نبرة زاعقة ناشزة، فكان غنائي عذابًا لا يُوصَف في أسماع أبناء قريتي من رفاق الطريق.
عشت في قريتي واحدًا وعشرين عامًا، لم أغترب فيها سوى مرَّة واحدة فقط، حين ركبت القطار في رحلة إلى «تشينغ داو»، وهناك كدت أضلُّ طريقي بين ألواح خشب طويلة في مصنع كبير للأخشاب. وعندما سألتني والدتي عمَّا رأيت في سفري هذا، أجبتها قائلًا في أسًى: «لم أرَ شيئًا بالمرَّة، ليس إلَّا أكوام نشارة وألواحًا خشبية.» بَيْد أنَّها كانت الرحلة التي حفزتني إلى السفر، وشدَّت انتباهي إلى تجاوز أفق الموضع القروي الذي نشأت فيه.
التحقتُ بالجيش في فبراير من عام ١٩٧٦م، أحمل مخلاةً تحوي أجزاءً أربعة من كتاب «موجز تاريخ الصين»، كنت اشتريته بما توفَّر لي بعد أن باعت أمي ما تبقَّى من حُلي زفافها، تاركًا ورائي «كاو مي»، تلك البلدة التي أحببتُها وأبغضتُها في آنٍ واحد، مبتدئًا أهم رحلة في مشوار حياتي. وهنا، فمن الواجب أن أعترف بأنَّه لولا ما حقَّقَتْه الصين على مدى الثلاثين عامًا الماضية من تقدُّم وازدهار، ولولا الانفتاح والتغيير، لَما أمكن لي أن أكون كاتبًا روائيًّا اليوم.
وسط حياة الجندية الصارمة الخشنة، تعرَّفتُ إلى موجة الكتابة الأدبية ذات الطابع الفكري التحرُّري التي اجتاحت ساحات الإبداع الصيني في الثمانينيات، وتحوَّلتُ من مجرد صبي مُنصِت حينًا إلى الرواة في الأسواق، وحكَّاء يُعيد سرد القصص حينًا آخَر، على أسماع أصدقائه وأهله، إلى تجربة التدوين الروائي بالكتابة. لم تكُن المحاولة سهلة، ولا الطريق ممهَّدًا أول الأمر، كما لم أكُن أدرك أنَّ تجربة حياتي في القرية، التي امتدَّت عشرين عامًا تقريبًا قد صارت رصيدًا لا ينفد، وكنزًا وافِر الغِنى. كنت أتصوَّر — في تلك الأيام — أنَّ الكتابة الأدبية تنحصر في الاقتراب من الصور الإيجابية للشخصية القصصية، في نموذجها المعهود وقالبها البطولي الذائع، فمن ثَم بقيت القيمة الأدبية لما أكتب ضئيلة للغاية، برغم ما نُشر لي من أعمال قليلة.
ما أحكيه عن نفسي محدود للغاية، فسرعان ما أنتهي ممَّا أقصُّه عن الذات، لكي أنتقل سريعًا إلى سرد حكاية الآخَرين. أمَّا الجوانب القصصية من حياة أسرتي وأقاربي، وما دار حول أهل القرية من حكايات، وما سمعته بنفسي من أفواه الكهول والجدَّات من أحاديث وروايات قديمة … فذلك كله يحتشد لديَّ، يحضرني من ركن قصيٍّ، مثلما تحتشد صفوف جند، لدى ساحة طابور، إثر صيحة نفير. يطلُّ عليَّ حشد الذكريات بعيون تترقَّب إشارة البدء … بدء لحظة الكتابة. وفي الكتابة يتبدَّى الجميع: جدي، جدتي، أمي، الوالد، أخي الأكبر، أختي، عمتي، أعمامي، امرأتي، ابنتي، كل هؤلاء يُطلُّون برءوسهم من بين أسطر الروايات، بالإضافة إلى كثيرين آخَرين من أهالي قرية كاومي دونغبي، وبالطبع، يتطلَّب الأمر معالجة أدبية لظهور تلك الشخصيات بطريقة تمنح ذواتهم وجودًا متجاوزًا لحقائق فردانيتهم المعطاة في وقائع علاقاتها المباشرة، لكي تكتسب ملامح جديدة في سياق تخلُّق كيانها الأدبي.
ومثلًا، فقد ظهرت صورة تُمثِّل شخصية عمتي، في أحدث رواية لي، وهي «الضفدع»، فلمَّا فزت بجائزة نوبل، هرع الصحفيون إلى بيت العمة التي تمالكت أعصابها وتجشَّمَت عناء الرد على أسئلتهم الكثيرة، ثم ما لبثت أن نفد صبرها، وأسرعت تلوذ ببيت ولدها في المدينة. حقًّا، كانت عمتي النموذج الذي استلهمته لبناء إحدى شخصيات «الضفدع»، لكن صورة الشخصية في الرواية كانت تختلف تمامًا عن السمات الحقيقية للعمة في واقع الحياة. في الرواية، كانت المرأة عنيدة مستبدة، تغلب عليها سمات الصلف والتحفُّز والاستعداء، بينما كانت العمة الحقيقية هادئة الطبع، لطيفة المعشر، بالإضافة إلى كونها أمًّا مثالية وزوجة وفية، تعيش حياة الكهولة في هناءة واستقرار. نموذج الشخصية الروائية كان يصِّورها بوصفها شريرة عجوز، تكالبت عليها في سِنِي الشيخوخة ضغائن قلبها، فصارت تُعاني الأرق المزمِن، ولا تُفارقها عباءتها السوداء، تتشح بها دومًا، فتبدو مثل شبح هائم تحت دُكنة ليل. ولا بد من توجيه الشكر إلى عمتي؛ لِسعة صدرها واحتمالها ما تضمَّنَته فصول الرواية من صور سلبية لها، وإني لَمُعجَب بذكائها؛ إذ تفهَّمَت مُلابسات علاقة معقَّدة بين ملامح شخصية واقعية، ونموذجها الإبداعي على نحو ما تعكسه كتابة روائية.
في «صدور ممتلئة وأرداف كبيرة» أقدمت، بجرأة، على الإفادة من وقائع تجربة حياتية مباشرة، ولو أنَّ الجانب الدرامي كان مُستمَدًّا من خيال كتابة في بعض منه، وفي بعضه الآخَر استوحيت نماذج كثيرٍ منَ الأمهات في قرية كاومي دونغبي. وقد كتبت في صفحة الإهداء هذه العبارة: «إلى روح أمي في السماء!» لكن الرواية، في الحقيقة، مُهداة إلى كلِّ الأمهات فوق الأرض، انطلاقًا من رغبة طامحة تتملَّكني في أن تكون أمي صورة ذات تجريد مطلق، وبالقَدْر نفسه، أجعل من ملامح قرية «كاومي دونغبي» صورة مصغَّرة للصين، بل للعالم أجمَع.
في «مواويل الثوم» استحضرت — على ساحة المشهد القصصي — صورة حقيقية لأحد رواة الملاحم الشعبية، وقُدِّر لهذه الشخصية أن تؤدِّي دورًا بالِغ الأهمية، واضطررتُ — بكل أسف — إلى استخدام الاسم الحقيقي، ولو أنَّ مجرى الأحداث داخل الرواية اتخذ طابعًا مستقلًّا عن مسار الوقائع خارج المتن. وكثيرًا ما تكرَّرت في رواياتي نماذج متواترة من هذا المثال، والحقيقة أنِّي كنت أعمد — في بداية التدوين — إلى استخدام الأسماء الحقيقية للشخصيات، أملًا في استبقاء جو من الاقتراب الحميمي مع الناس في قالب روائي، لكن المشكلة كانت تكمن في استعصاء تغيير التسميات عند الانتهاء من الكتابة، وهكذا فقد كان كثيرون ممَّن يرِد ذكر أسمائهم في الكتابات المنشورة، يلجئون إلى أبي شاكين ما حاقَ بهم جرَّاء هذا التصرُّف من انتهاكٍ لخصوصياتهم، فكان يعتذر إليهم، ويجتهد في لَفْت أنظارهم إلى عدم الأخذ بما يرِد في القصص مأخذ الجد، قائلًا لهم: «انظروا … فهو قد كتب عنِّي في أول سطر من «الذرة الحمراء»، أيضًا هكذا: «أبي، ذلك الشقي قاطع الطريق …» ومع ذلك فقد تغاضيت، فما لكم تعطون الأمر أكثر من حقه؟!»
لم تكُن مشكلتي الكبرى عند كتابة «مواويل الثوم» — وهي نمط من الكتابة يقترب من معالجة قضايا الواقع الاجتماعي — تتمثَّل في مدى جرأتي على انتقاد الظواهر السلبية في المجتمع، بل في المدى الذي يُمكن أن يصل إليه التصوير الدرامي لمشاهد تموج بالغضب والانفعالات المتأجِّجة، إلى الدرجة التي قد تُهدد بطغيان التناول السياسي على المعالجة الروائية، ممَّا قد يؤطر الرواية في خانة التقرير التسجيلي حول وقائع أحداث اجتماعية. القاصُّ جزء من مجتمع، هذا صحيح، وبالطبع فهو صاحب موقف ورؤية ذاتية، لكنَّه مرهون، أثناء الكتابة، بموقف إزاء الناس … إزاء الجمع الحاشد من البشر الذين يتحتَّم اتخاذ موقف مُنحاز إليهم، بهذا الاعتبار. هنالك فقط ينبثق الأدب عن أحداث، ولا يلبث أن يتجاوزها، يُبدي اهتمامًا بالسياسي، لكن يفوقه متعديًا إلى ما هو أرحب.
ربما بسبب معايشتي الطويلة لمشاق الحياة، أُتيح لي أن أقترب كثيرًا من حدود الإدراك العميق للطبع الإنساني. أعرف تمامًا الدلالة الحقيقية للشجاعة، مثلما أفهم المعنى الأصيل للتعاطف. وأدرك أنَّ بقلب كل إنسان منطقة غائمة تتأبَّى على الخضوع لمعايير قاطعة بالصواب والخطأ، ولا تنضبط وَفْق أُطُر الخير والشر، فتلك هي المنطقة التي يُجيد الكاتب استعراض موهبته في فضاءاتها العريضة، فهو إذ يملك ناصية الوصف الدقيق والحي لتلك المنطقة الضبابية المليئة بالتناقضات، يتمكَّن بالضرورة من تجاوز السياسي صُعدًا نحو استحقاق جدارة المستوى الإبداعي المتميِّز في الأدب.
إنَّ الاستطراد في حديث مطوَّل عن أعمالي الروائية مدعاة للملل والضيق، بَيْد أنَّ مسيرة حياتي هي نفسها مسيرة إنتاجي الأدبي، سواء بسواء، ولو أمسكت عن ذكر أحوال كتابتي الروائية، فلن أجِد ما يستحق القول، فأرجو المعذرة منكم جميعًا!
كان حصولي على جائزة نوبل مثار جدل واختلاف في الآراء. وفي بداية اللجاج حول هذا الموضوع، ظننت أنَّ موضوع الجدل يتعلَّق بي شخصيًّا، ثمَّ ما لبثت أن شعرت بأنَّ الجدل يدور حول شخص آخَر غيري، وبأنِّي مثل أيِّ واحد من مشاهدي عرض مسرحي يدور أمامه، أنظر إلى أحد الحاصلين على الجوائز، وقد نُثرَت فوقه الورود تارةً، ورُمي بالحجارة تارة أخرى، أو أُلقيَت عليه قاذورات الطريق، حتى خفت عليه أن تنحطم معنوياته، إلا أنَّه شقَّ طريقه وسط الورود والأحجار، وراح يُزيل ما علق به من أوضار، ويواجه الجمهور بكلِّ هدوء وثقة، قائلًا: إنَّ الطريقة المُثلى التي يكشف فيها الكاتب عن مكنوناته هي إبداع الكلمة بالكتابة، وقد قلتُ كلمتي في ثنايا كتاباتي، وربما تبدَّد الحديث الشفاهي أدراج الرياح، بينما تبقى الكلمة المكتوبة مدى الآباد. كم أتمنَّى لو صبرتم على قراءة ما خطَّه قلمي، وليس لي أن أدفعكم دفعًا إلى قراءة أعمالي، بل حتى لو قرأتموها فلست أطمح إلى أن تُبدِّلوا أفكاركم عنِّي أو تغيِّروا وجهة نظركم فيَّ، ولا أظن أن في الدنيا كلها كاتبًا استطاع أن يُقنع الناس بأن تجتمع على حبه والشغف بإبداعه، لا سيَّما في عصرنا الحالي.
رغم أنِّي لا أجد ما يستحق الذكر، فلا بد في هذه المناسبة أن أقول شيئًا، وإنِّي لمحدثكم بإيجاز بضع كلمات أخرى.
بما أنِّي قاصٌّ، فسأروي عليكم حكاية قصيرة.
في ستينيات القرن الماضي، كنت — وأنا تلميذ في الصف الثالث الابتدائي — قد ذهبت في رحلة مدرسية إلى معرض يضمُّ صورًا للمِحن والمآسي والأوقات العصيبة. وتحت إشراف معلم الفصل وبتوجيه منه، انهمكنا في البكاء والعويل، ولم أشأ أن أمسح الدموع؛ إمعانًا في إظهار ملامح الحزن، ترضيةً للمعلم المرافق لنا. ولمحتُ بعض الزملاء يعتصرون عيونهم ويجتهدون بكل طريقة في إغراق وجوههم بمظاهر الحزن، مثلما كان هناك آخَرون ينتحبون بانفعال حقيقي، سوى زميل واحد فقط لم يشاطرنا تلك الانفعالات؛ المزعوم منها والأصيل، بوجه خالٍ من دموع وفم لا يفتر عن نأمة أسًى، ولم يكُن يُحاول حتى أن يُداري ملامحه التي لم يبِن فيها أي أثر لمشاعر متجاوبة مع مظاهر الانفعال من حوله، بل كان ينظر إلينا مشدوهًا ووجهه مليء بالحيرة والذهول، ممَّا دعاني — فيما بعد — أن أبلغ أمره إلى معلِّم الفصل، حيث تقرَّر لَفْت نظر الدارس بإنذار عقابي. وبعد مرور عدة سنوات على هذه الواقعة، قابلت المدرس، وأبديت له ندمي عن قيامي بالإبلاغ عن سلوك زميلي هذا، وأنَّ الأمر لم يكُن يقتضي منِّي التصرُّف على هذا النحو، وإذا بالرجل يُفاجئني بأنِّي لم أكُن الوحيد المبلِّغ عن زميل لي، فقد كان هناك عدد آخَر من الدارسين ذهب إليه، وتمَّ الإبلاغ عن السلوك نفسه، وبالطريقة نفسها. وإذ علمت أنَّ زميلنا هذا توفِّي منذ سنوات، فقد تعاظم إحساسي بالندم، كلَّما طاف بذهني ذكر ما جرى. إنَّ أهم ما رسخ في وعيي بعد سنوات من هذه الحكاية يتمثَّل في أنَّه عندما ينخرط جمهور عريض في البكاء، فلا بأس من أن يستعصي الدمع على بعض العيون، فعندما يصير النحيب لونًا من الاستعراض الدرامي، فلا بد أن يبقى هناك بعضٌ ممَّن لا تنحدر من أحداقهم الدموع.
ثمَّة حكاية أخرى: منذ ثلاثين عامًا، وأثناء مدة خدمتي بالجيش، كنت ذات مساء جالسًا بالمكتب أُطالع كتابًا، وإذا بالباب يوارب ويدلف منه أحد الضباط؛ ليُلقي نظرة سريعة على المكتب المقابل لي، ثم يقول كالمحدِّث نفسه: «أوه، أليس من إنسان هنا؟» فانتبهت واقفًا، وأجبتُه بأعلى صوتي قائلًا: «ألستُ بإنسانٍ موجود أمامك هنا!» تأمَّلَني الرجل مضطربًا، وتراجع خارجًا في حرَج بالِغ. ظللتُ بعدها أحسد نفسي على شجاعتي في هذا الموقف، وأعدُّه أحد مآثر البطولة. لكنِّي وبعد مرور عدد من السنين، صرت أشعر بوخز الندم.
أرجو ألَّا تضيق صدوركم بحكاية أخيرة كان جدي قد رواها لي، منذ أعوام خَلت: كان ثمانيةٌ من عُمَّال البناء قد خرجوا للعمل، فلمَّا اشتدت العاصفة بالخلاء وانهمر المطر مدرارًا، احتموا بأحد المعابد، ريثما يصفو الجو وتهدأ الأحوال. لكن الرعود بالخارج تزايد قصفها، وأخذ البرق يُلقي على الأرض بشواظ من لهب، حتى اكتنفت النار جدران المعبد، واشتدَّ عزيف الريح في الأجواء، وصارت دمدمتها تُحاكي هدير تنين في خلاء، فاستولى الذعر على قلوب أولئك النفر المختبئين بالمعبد، وقال أحدهم لرفاقه: «لست أظن إلَّا أنَّ أحدنا قد ارتكب مثالب أحنقت علينا أقدار السماء، فترصَّدت لنا وأحدقت بنا من كل صَوب، نقمةً وعقابًا، فلينظر الآثِم لنفسه مخرجًا، وليتقدَّم خارج المعبد ليلقى جريرة فعله، فيُجنِّب الأبرار والمظلومين جناية شروره، فلا يؤخذ البريء منَّا بذنب الجاني.» وبالطبع، فلم يكُن ثمَّة مَن يخرج بنفسه إلى حَتْفه تلك الساعة. وبادر أحدهم إلى فكرةٍ اقترحَها عليهم، قائلًا: «ما دام الجميع قد بقي مكانه يعاف الخروج، فليرمِ كل واحد منا بقبعته خارج باب المعبد، حتى إذا رأينا الريح قد جرفت إحداها، كانت تلك علامة على تأثيم صاحبها، وإشارة إلى وجوب خروجه ليَمثُل طائعًا أمام عدالة مؤاخذته وحسابه.» فلم يلبث الكل أنْ قذفوا بقبَّعاتهم إلى خارج المعبد، بَيْد أنَّ سبعًا من القبَّعات رجع بها تيار الهواء إلى الداخل، سوى واحدة دارت بها دوَّامات عاتية، فنصح العمال زميلهم بالخروج ليلقى عاقبة أمره، لكنَّه أحجم عن البروز إلى الخارج، فحملوه جميعًا وألقوا به خارج البوابة. وأظن أنَّ خاتمة القصة يُمكن التنبؤ بها، وتقدير ما انتهت إليه … ذلك أنَّ العمال، فور إلقائهم بزميلهم خارج الأسوار، انهدم المعبد فوق رءوسهم.
فأنا مُشتغِل بالحكي والرواية.
ولأني مُشتغِل بالحكايا، فقد حصلتُ على جائزة نوبل.
ومنذ حصولي على الجائزة، وقعت أحداث وحكايات بالِغة الدلالة، أهم ما فيها أنَّها زادت ثقتي وإيماني بالحق والعدل.
سأبقى، فيما هو آتٍ من الأيام والسنين، أواصل الحكي دائمًا أبدًا!
شكرًا لكم جميعًا!