٣
سلَّمني العم دو مِقْود العجول ثم استدار ومشى في طريقه، فكنتُ أجري وراءه وأنادي عليه: «لا تنسَ يا عمي أن تسرع بالعودة إليَّ … فأنا مثلك لم أضع شيئًا في جوفي منذ آخِر لقمة.» ومضى الرجل لشأنه ولم يلتفت.
بقيت أنظر إلى العجول التي حملت جروحًا دامية بين أفخاذها، وكان ثلاثتهم ينظرون أيضًا إليَّ وعيونهم الذكية اللامعة مُغرورقة بالحزن والألم، فلن يعودوا — طوال عمرهم — بحاجة إلى الوثوب فوق ظهر إناثهم، ولعل شوانجين كان أحسنهم حظًّا؛ إذ أنجب حفنةً لا بأس بها من الأولاد، فهو — من هذه الناحية — أفضل من الأخوين «روشي» اللذين لم يلمسا أنثى، فلم تكُن لهما ذرية من الأصل، ولما تأملتُ نظرات عيونهم عن قرب، وجدتُ فيها شيئًا آخَر غير الحزن، فقد بان لي أنها تمتلئ ببريق أو لمعان ذي معنًى ما، ووقع في ظني أنه بريق الكراهية الموقدة ضد بني البشر، فداخَلني الخوف منهم، ورحتُ أسحبهم وأمشي محاذرًا أن ينتهزوا الفرصة المتاحة لهم — بكل سهولة — لمباغتتي من ورائي، رغم إدراكي لمدى ما تحمَّلوه من الجراح والآلام، لكني أيضًا توقعتُ أن ينطحوني — بكل سهولة — بسنِّ قرونهم فيكسروا ظهري، وتكون نهايتي على أيديهم، فلم ألبث أن قلتُ لثلاثتهم: «اسمعوني يا رفاق … أنا لا شأن لي بالموضوع الذي حصل هذا النهار، فلا تحقد قلوبكم عليَّ … لقد كنا دائمًا أصحابًا، نروح ونجيء معًا … عشنا الفرح والمسرات والأيام الصعبة … تتذكرون أيام الشتوية الفائتة لما نزل الثلج وامتلأت الأرض جليدًا، لما مشينا وكاد الجبل يوقعنا في منحدراته ونحن عند الجرف البحري، والدنيا زمهرير، والبرد يدخل في عظامنا، كنا نرش نقطة الماء فتتجمد قبلما تلمس الأرض … كانت أيامًا عشناها معًا برغم الصعاب … ولو كان الأمر بيدي ما أخصيتكم عمري …» كنت أثناء تبرئة ذمتي — أمام الثيران — ألمح عيونها تترقرق بالفهم والمغفرة، وقد احتشدت دموعها في المآقي تنتحب ملء أشداقها، فرحتُ أربت فوق الرءوس وقد اعتراني شعور حقيقي بالتعاطف معها، فناديتها: «روشي … شوانجين … ابقوا معي وامشوا … لأجل حياتكم وخاطري … ورائي تمشون وأنا معكم.» سمعت «روشي» يقول: «وما قيمة الحياة وقد انتُزعت منا خصياتنا؟» قلت: «ابعدوا هذه الأفكار عن رءوسكم، المثل السائر يقول … «الموت الناجز أجدى من حياة خاملة» … تعالوا نمشي وخطانا تمشي بنا.» سحبتهم ومشيت مارًّا بالحارة التي يطلُّ عليها منزل ماليان فتجاوزته حتى بلغت شاطئ النهر.
وقت أن بلغ بنا المطاف ذلك المكان، كانت الشمس قد سقطت في جوف الجبل وخلفت وراءها بضع سحابات حمراء ذكرتني بلون الدم النازف من شق الجرح في جسد شوانجين، وعلى جانبَي سد النهر، قامت أشجار الصفيراء — بجموعها الكثيفة — تحوط براعمها الطالعة في مثل هذا الوقت من السنة، والشذا يضوع ملء أوراقها ويفوح في الأرجاء ويفغم أنفي فيدوخ رأسي. كانت أوراق شجر الصفيراء من نوعين: نوع أبيض كالثلج، والآخر وردي، لكنهما — في ظل سحابات الغروب — صارا مُشبعين بالحمرة القانية.
مشيتُ سارحًا بالثيران، هادئ الخطوات تحت غيوم المساء، ورأسي دائخ بعبق أوراق النبقيات، ولم يكُن لسكرة الوقت نشوةٌ، لأن القلب بات مختنقًا بأحزانه، حتى الثيران بدَت واجمةً أسيفةً وبقلوبها من الكرب أعظم مما جاشت به نفسي، بيد أن شيئًا مما كنتُ أعانيه من القلق كان متصلًا بما هجس في ظني حول ما آلت إليه أحوال خُصَى العجول في مطبخ امرأة العم ماليان، فاللحم حتى لو كان مختلطًا بعروق بول العجول سيبقى لحمًا على أية حال، خصوصًا في عيني، أنا الولد الذي لم يبقَ من آثار اللحوم في فمه إلا ما ذاقه عرَضًا وقت زفاف أخته الكبرى منذ خمس سنوات. وكنت يومها قد خطفتُ طبق لحم خنزير وانتحيت به جانبًا تحت جُنح الظلام، أما اليوم فتعاستي سببها حرماني من لحم الخُصَى المفرومة، والثيران نكبتها أنها فقدت من بيضها الذكوري ما لا رادَّ له، فكلانا في البلوى سواء والمنكوب يُواسي «المفجوع».
أرخى الظلام سدوله ولم يظهر أثرٌ لمجيء العم دو، وهو أمر لم أستغربه لا سيما وقد عهدت فيه النذالة منذ أن اشتركت معه في رعي البهائم مدة نصف العام، وكنت أراه بعينَيَّ هاتين يلتقط بقايا الحبوب وفتات الأكل من الشقوق الغائرة التي صنعتها الفئران البرية وسط الغيطان، فيضعها في مخلاتي ويوهمني بأنه أحضرها لي من بيته، باعتباري الفتى الذي أصبح موضع اصطفائه وتفضيله دون الآخرين، كي أكون زوجًا لابنته الصغرى، آمِلًا أن أمشي وراءه كالكلب في كل خطوة وأطيع أوامره لا أفتح فمي بنصف كلمة، وكم كلفني ذلك من مكابدات لا أول لها ولا آخِر، ويشهد عليَّ في ذلك غيط الخضار المتاخم لبيته عند سدِّ النهر … يشهد عليَّ في الساعات الطويلة من العمل المُضني الذي لم أبخل به حتى ارتوت أرضه من عرق جبيني بأكثر مما شربت من ماء المصارف، وكان الغيط عبارة عن تسعة حقول مزروعة بالكُرَّاث أمكن لها — في مواسم الحصاد — أن تغل دخلًا بالمئات بل إن حصاد موسم الربيع وحده كان يأتي بما لا يُعد ولا يُحصى. المهم أني أثناء تفكيري في غيط الخضار هذا، وجدتُ نفسي قد وصلتُ إليه فوجدت دغلًا من أشجار «الباوتونغ» الفواحة بالعطر كالريحان، وقد نبتت عند حافته ببالغ الزهو والعنفوان، خصوصًا أنها كانت من فصائل ممتازة استحضرها أحد رجال الإدارة أثناء عمله بمحافظة «لانكاو». ثم إن الكرَّاث في الغيط كان يطلب الحصاد، وقد بلغ طول سيقانه نصف الذراع، فكنت كلما اقتربتُ اتضحت في عيني المَشاهد، حتى لمحت العم دو يميل على الزرع ويبذر السماد، والسماد عبارة عن خليط من فضلات بشرية، كانت تندرج في باب الملكية العامة التابعة للكومونات، وكانت بالتالي جزءًا من ملكية الوحدة الإنتاجية، ومع ذلك فها هو ذا العم دو يستأثر لأرضه بأجولة السماد كلها، جهارًا وبقلب جامد، فمن أين جاء بهذه الجرأة؟ وعلى أي ظهر يستند؟ وبالطبع فلم يكُن سنده في ذلك سوى زوج ابنته الكبرى الذي يعمل طباخًا في الكومونة، وزوج ابنته هذا كان نحيفًا مقفَّعًا، شبيهًا بجرادة الحقول التي تشبه حشرة نطاطة يُقال لها حصان إبليس، ومشكلة مَن عملوا بمطبخ الكومونة، كما أُشيع منذ سنوات أنهم كانوا يستلمون عملهم فيه وهم نحفاء، فلا يكاد يمرُّ عليهم عام واحد فقط، حتى تغلظ رقابهم وتمتلئ أجسادهم صحة وعافية مع سمنة مفرطة، فيظهرون مثل أكياس منتفخة بالهواء، ويصبح شكلهم مفلطحًا على غير ما كان يألفه الرائي من قبل وكان أن ثارت غضبة السيد أمين الوحدة الفرعية، متهمًا الطباخين بالسطو على كميات المواد الغذائية التي تحت حوزتهم، والتهامها سرًّا فيما يُعد سرقة وتبديدًا لممتلكات عامة، ولذلك فقد طُردوا جميعًا، ما عدا صهر العم دو، ذلك الطباخ المهزول الأعجف، إذ وقف السيد الأمين إلى جانبه وبرَّأه من تهمة الجشع والسعار الذي أصاب زملاءه، بينما مال العم دو على أذني، وأفضى إليَّ بسر خفي عن الجميع … قال إن صهره هذا أعظم مبطون في العالم، فهو يلتهم من الأكل ما لا يتصوره أحد، حتى إنه قد يأتي في وجبة واحدة على ثلاثة فطائر من المانتو، أي الفطائر المخبوزة بالبخار، وطبق كبير من اللحم … فهل سمعت في حياتك بشيء اسمه البطن السعيد؟ — هكذا سألني العم دو — إن لم تكُن تعرف، فإن هذا هو اسم زوج ابنتي … دو فو، أي المبطان السعيد الذي لم يأتِ إلى هذه الدنيا عبثًا بل ليملأ بطنه من لحم البر والبحر مدى الأيام … وكنتُ أنظر إلى العم دو — في الحقل — وأنا أكاد أنفجر من الغيظ، فما إن فتحتُ فمي لأنادي عليه حتى رأيت أوهوا، ابنته الصغرى، وهي نازلة إليه من سد النهر تحمل دلوين من الماء، تطير طيرانًا بثوبها الهفهاف، الذي يرفُّ مختلجًا كرفَّة جناح الطير.
خطبها لي العم دو، فيما بيني وبينه، فكان يطوف بها في رأسي طائف الأحلام الحلوة، وحدث ذات مرة أن مددتُ يدي في جيب العم ماليان والتقطت ورقتين من فئة «الماو» (نحو عشرين قرشًا) من النقود وقصدت إلى سوق الجمعية التعاونية فاشتريتُ عشرين قطعة من حلوى بطعم الفواكه، لم أبخل على نفسي باثنتين منها، وحملت الباقي إليها فأخذتها جميعًا، وهي تقهقه ملء صدرها، فلما مددتُ يدي أتحسَّس هذا الصدر، دفعتني في بطني بكل عافيتها فأوقعتني على ظهري، قالت: «حتى الصبية الصغار الذين لم يخطَّ الشعر في شواربهم يملئون رءوسهم بهذه الأشياء!» فرُحتُ أفكِّر فيما حصل لي وأغتاظ من جفوة الحظ المنحوس، وحبات الحلوى التي راحت عليَّ هباءً، قلت لها مستعطفًا: «أرجعي لي حاجاتي»، تفلَتْ في وجهي بصاقًا بطعم الفواكه، صائحة: «وتأخذ خراءك بعدما رميته؟! تهديني الهدية وتطلبها؟!» قلت: «اجعلي الحلوى معك، لا أريدها … لكن دعيني أتحسَّس صدرك!» قالت: «اذهب إلى بيتكم … تحسَّس است أختك!» قلت: «أنا ليست بي حاجة إلى است أختي … أريد أن أتحسَّسكِ أنتِ.» قالت: «إذا كنتَ وأنت صغير غبي بمؤخرة كبيرة، تتحرش بالفتيات هكذا … فماذا تفعل وأنت كبير؟!» قلت: «إذا لم تتركيني أتحسَّسكِ … فأعيدي لي حاجاتي.» قالت: «يا بن الدببة الغبية … أنتَ لَحُوح مثل لصق الغِراء.» وأخذت تتلفَّت حواليها ثم بصوت خافت جدًّا قالت: «لازم … يعني؟» أومأت برأسي ولم أكُن من شدة الإثارة أملك الكلام. واستترَت وراء جذع شجرة فقبضَت على طرف سترتها وعرَّت ثدييها وقالت في اضطراب كبير: «إذا كان لازمًا … فبسرعة.» مددتُ يدي مرتعشًا … ثم قالت: «خلاص … كفى هكذا!» احتججتُ قائلًا إنه لا يكفي شيئًا فدفعتني بعيدًا، قائلة: «غُر في داهية … أنت أخذتَ كفايتك.» قالت أيضًا: «إذا وقعتَ بلسانك لأحد … فسأضع في فمك السكين.» قلت: «لكنَّ أباكِ خطبكِ لي زوجة.» ذُهِلَت ثم كتمَت فمها ضاحكة فقلتُ: «على ماذا تضحكين؟ هذا ما حصل فعلًا، واسألي أباكِ إن لم تصدقيني.» أشارت نحوي قائلة: «ألم يبقَ إلا أنت أيها الصغير العبيط؟» نشطت ذاكرتي فجأةً بما حكاه العم ماليان ذات مرة، من قصة الكنَّة الكبيرة وزوج الابنة الصغرى، ضئيل القامة، فاقتبست شيئًا من عباراتها، قلت: «قد يكون مؤشر الميزان صغيرًا ضئيل القامة، لكنه هو الذي يحدد الموازين الثقيلة … والفلفل بطرفه الضئيل يشعل الجوف نارًا حامية، فلا تستهيني بجسمي الصغير هذا، فبين عشية وضحاها يكبر الصغير … وتنصلح أحواله.» قالت: «مَن علَّمَك هذا الكلام الكبير؟» أجبت: «ليس شأنك.» قالت: «ما دام الموضوع هكذا فأمامك أن تكبر على راحتك وعندما تكبر قدر الكبار … تعالَ وتزوجني.» لمَّا خلصت كلامها تركتني ومضت في طريقها.
بعد هذه الواقعة بفترة قليلة حدثت الحادثة التي سببت لي عذابًا يفوق الوصف، لأن البنت «أوهوا» — بعد أن انتهت من كلامها معي، قائلة إنها في الانتظار إلى أن أكبر وأتزوجها — إذا بها تتم خطوبتها إلى شاب يعمل نجارًا في قرية مجاورة، ولم تكُن قامته أطول مني إلا بالشيء الذي لا يُذكر، وكان من عادته أن يقلِّص شفتَيه فتتراجعان عن أسنان سوداء كالقطران، بالإضافة إلى أن مفرق شعره من الخلف توسطته دوامة كانت تدور بفروة رأسه، فيتشعث منها شعره دائمًا أبدًا، وكم اعتاد الناس — في قريتنا — أن يلتقوه ماشيًا بينهم وهو يحمل على ظهره منشارًا ضخمًا وبلطة صغيرة بزعم أنه جاء يشتري جذوع الشجر، ولطالما حَشر فوق طرف أذنه قلم رصاص منظره غريب وإن كان ظريفًا بعض الشيء حتى وقع في ظني أن وضع القلم بهذه الطريقة خلف الأذن هو السبب في انعقاد أواصر المحبة والإعجاب بين أوهوا وفتاها النجار.
فلما حان يوم زفافهما تحلق جمعٌ من الناس حول بيتها للفرجة على وقائع تلك المناسبة، فاندسستُ وسط الواقفين وسمعت حديث العجائز وهن يمتدحن بنات العم دو، وما تميزن به من بشرة نضرة ووجوه مستديرة جلبت إليهن حظوظ زواج سعيدة؛ حيث تزوجت الكبرى من طباخ الكومونة فأصبح بيتها عامرًا بالخير، تكاد لا تخلو مائدتها من اللحوم والأسماك، أما الثانية فتزوجت من عامل بالغابات الكائنة بمنطقة جبال «شينان» الكبرى في إقليم دونبي؛ حيث الجلود والفِراء الثمينة، حتى إنها لما جاءت مع زوجها لزيارة بيت أبيها بعد قرانها مباشرة، كانت مغطَّاة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها في الفراء الغالي … من غطاء رأسها إلى البالطو إلى الحذاء إلى البنطال المتموِّج والسترة المخملية التي لم يُر مثلها في النواحي كافة، وكان من حظ البنت الثالثة الاقتران بمدرِّب الكلاب البوليسية في إدارة الأمن العامة بالمحافظة، ورغم أن الناس أطلقت عليه لقب «فضلة الكلب» … فما هو باللقب الفاحش كما يتصورون، لأن «فضلة الكلب» هذه ليست إلا اللحوم الطازجة، بصريح الكلمة، لكن كل هذا شيء، وما نالته الفتاة الرابعة، ابنته «كينيو»، شيء آخَر، فيا لسعدها إذ تزوجها شيخ الجزارين «سونغو لوين»! ذلك الذي يمشي في الأسواق وبيده لفافات اللحوم … عشرات اللفافات التي لا تجدها إلا مع أمثاله … وأين لباقي الناس مثل هذا الحظ؟! وحتى البنت الخامسة، أصغرهن، لم يتخلَّ عنها نصيبها عندما اقترن بها الولد النجَّار الذي يبدو عليه أنه «مجرفة أوراق»، أي إنه أشبه ما يكون بالمجرفة التي يستخدمها البستاني في لملمة الحشائش والورق السائب … فالولد كذلك أيضًا تشعر لأول ما تراه بأن لديه موهبة خاصة في تجميع أو، قل، «تقشيط» النقود من جيب الزبائن.
وبينما الجميع منهمكون في هذا، إذا بموكب الزفاف قد وصل … كان هناك صف من أربع دراجات ماركة «الغزال الذهبي» فوق كل واحدة منها ثلاث سلالٍ من اليواندو المصنوعة من شرائح البامبو وقد احتوت كل سلة منها على صرَّة حمراء، فلما توقفت الدراجات هرعت النسوة إليها وتحلقن حولها فكشفن عنها الغطاء، فإذا هي مليئة بأرغفة المانتو الناضجة على البخار، وقد نثرت فوقها نقاط من السكر الأحمر أبرزت بياض الخبز الناصع، وفي الحال خرج العم دو وامرأته في الملابس الملونة لاستقبال أنسبائهما بالوجوه الضاحكة المنشرحة، وفكَّرتُ أن أستطلع ملامح البنت أوهوا لكنها كانت متخفية وراء قناع، مثل جواسيس «تشيانغ كاي شيك».
وسمعت — فيما بعد ذلك — أن أهل العريس قد أهدوها ثلاثة أطقم من الملابس: طقم مخملي مضلَّع وآخر من القطيفة السادة، أما الثالث فكان من النوع الثمين المعروف عندنا باسم «الفاردينغ» بالإضافة إلى ثلاثة أزواج من الجوارب النايلون تتراوح ألوانها بين الأحمر والأزرق والبنفسجي، وكذلك ثلاثة أحزمة جلدية أحدها من الجلد البقري الطبيعي والثاني من جلد الخنزير والثالث صناعة ماكينة، وبلغني أن أوهوا أحنتْ رأسها خجلًا أمام حميها ونادته كما تنادي البنت أباها فمد يده ونفحها مائة يوان مرةً واحدة، فلما وصل إلى مسمعي هذا الكلام، سكن غضبي في الحال وفكَّرتُ في أني لو كنتُ مكان أوهوا لما ترددت في الزواج من الصبي النجار هذا.
والآن، فقد أصبحت خطيبتي السابقة أوهوا تنزل من عند سد النهر وهي تحمل دلوين مترعين بالماء، وتطير فوق الأرض طيرانًا كالصقر الجسور، بدت لعيني هائلةً ضخمة التكوين، كل شيء فيها ضخم وكبير: رأسها، وجهها، فمها … حتى فمها وعيناها والذراعان ويداها والساقان، وتصورت أنها لو لطمتني الآن لطوَّحت بي في خلاء المزارع أو انقضَّت عليَّ فمسحت بي الغيطان مسحًا، هكذا بدون أي مبالغة كنت أرى أنها تستطيع بركلة واحدة أن تلقي بي بعيدًا … و«بعيدًا» هذه قد يصل مداها إلى مترين أو ثلاثة … فمعنى ذلك أني لو كنت قد دخلت بها زوجة ولم أقُم معها بدوري الذكوري أو أسأت التصرف في أي أمر من الأمور، لخنقتني في الحال، وبرغم ذلك فقد بقيتُ أشعر تجاه هذا الجسد الضخم وصاحبته بكل الحب والود، باعتبار أنها البنت التي كانت خطيبتي يومًا ما. في ذلك الوقت كانت قد حازت لقب «عاملة الستمائة» — وذلك على اعتبار أن مكافأتها الإنتاجية كانت تبلغ الستمائة نقطة — بينما كانت مكافأتها الإنتاجية السنوية تصل إلى أكثر من ثلاث آلاف نقطة، وبالتالي فقد كانت أكثر أعضاء الوحدة الإنتاجية إحرازًا لنقاط العمل والإنتاج، ثم أُضيف إلى هذا اللقب تسمية أخرى، حيث وُصفت بأنها … «أم الثلاثة الكبار». ولم تكن تلك إشارة إلى ما أذيع وقتها من الإنجازات الثلاثة الكبرى: الحرية الكبرى، الصراحة الكبرى، جرائد الحائط الكبرى، أي الجرائد المعروضة للتعبير عن الرأي بالشوارع، بل كان المقصود بالتسمية التلميح إلى رأسها بالغ الضخامة وأليتها الكبيرة وبطنها المتضخم بحمل جنينها وهي تسمية لم تعجبني على الإطلاق ولم تعجبها هي أيضًا، بأية حال. وعقب زواجها مباشرة كنت قد لقيتها بالصدفة عند شط النهر، فمن حنقي عليها ناديتها معايرًا … «يا أم ثلاثة!»
فما كان منها إلا أن أنزلت الدلوين وخلعت العصا الحمالة وجرت ورائي فكنت أعدو وهي في إثري مسافات طويلة، ولم ينقذني من بطشها سوى ما تعلمتُه في صباي، لحسن الحظ، من تسلُّق الشجر «بأرجل الأرانب» كما كنا نقول ونحن صغار لمَن يطلع إلى ذرى الأشجار بساقين متقافزتين معًا، فنفذتُ بجلدي من بين يديها ذلك اليوم، لأني لم أكن ضامنًا لحياتي فيما لو ظفرت بي على أي نحو كان. وأصبحتُ — كلما صادفتها على طريق — أطأطئ لها رأسي صاغرًا بينما تنظر إليَّ شزرًا، وعيناها تسلطان عليَّ شواظًا من وقدة الغيظ.
اقتربت مني وهي تحمل الدِّلاء، قالت: «ما الذي جاء بك يا روهان إلى هذه الناحية؟ ما أظن إلا أنك جئت لسرقة الكُراث من غيطنا.»
قلت: «ألم يبقَ في الدنيا إلا الكرَّاث الذي عندكم؟»
قالت: «الدنيا مليئة بالكراث فماذا جاء بك تتسكع هنا؟»
قلت: «أبحث عن النذل أبيك!»
لم تعبأ بالرد عليَّ وهرولت إلى غيط الخضار وهي تحمل الماء، ففهمت أن وقت الحصاد قد أزف، لأن كل هذه الحيوية لم تكن تنزل عليها، هي وأهلها، إلا وقت حصاد الكراث، بحيث كان الجميع يهرعون إلى ري الأرض بأكبر كمية من الماء قبيل الحصاد وذلك لكي يتشبع الزرع بالماء ويزيد وزنه. رأيتها تفرغ الماء في الحقل دون أن تخلع الدلوين من العصاة الخشبية المستعرضة فوق كتفيها، وعجبت لكل هذه العافية التي حلَّت عليها، ثم استدارت بقامة مديدة وصدر مرفوع في الهواء وعاودت طريقها تجاهي، فسحبتُ الثيران بالعرض وسددت عليها طريق الرجوع فنهرتني: «ما لك؟ أجُننت؟ خذ جانبًا أو غُر في داهية بعيدًا عن هنا.» حدَّقتُ فيها طويلًا، قلت: «أنتِ ما لكِ شأنٌ بي … أنا أرعى الثيران للوحدة الإنتاجية وأنتِ من الرأسماليين أعداء الشعب والثورة … فبأي حق أفسح لكِ الطريق؟» قالت: «رأسك يا روهان ما زال يفكر في حاجات انتهت، ولو أخرجت هذه الحاجات من رأسك لأرحتَ نفسك مما أنت فيه من تعب … اهتم بمصلحتك وانظر لشغلك … هل ستبقى تفكر فيما لا فائدة منه؟» قلت: «اكتشفتُ أنكِ منذ زواجِكِ بالنجار هذا، وأنت تزدادين قبحًا وبشاعة.» قالت: «أنا أصلًا لم أكُن جميلة … فهل اكتشفتَ ذلك توًّا؟» قلت: «وطلع لك شنبٌ في وجهك، كما الرجال.» تحسَّسَت ما فوق شفتها العليا وهي تزمُّ فمها وتضحك ثم خفضت صوتها قليلًا وهي تقول لي: «لا بأس … منظري قبيح وشعثاء وبشنب الرجال وأم الثلاثة أيضًا … هل استرحت؟ ليتك الآن توسِّع لي الطريق كي أمشي؟» قلت لها: «أنت خدعتِني … قلتِ إنكِ ستنتظرين سنة أو اثنتين، إلى أن يجيء الوقت المناسب لزواجنا …» قلتُها وطفرت دموعي، ولو أني كنت أحاول أن أبدو حزينًا بعض الشيء عسى أن أقتنص منها مغنمًا تسنح به الظروف، فإذا الأسى دموعٌ تفاجئني حقيقةً بل سيل من دموع، فتنهَّدَت ملء صدرها تنهيدة مثقلة، وبدت ملامحها مفعَمة بالمشاعر … فلما تبدَّت ملامحها مفعَمة بالمشاعر ازدادت جمالًا وأصبح حسنها في عيني لا يوصف، وجاءني صوتها حائرًا وهي تقول: «روهان … أنت ولد غلبان لكنك عفريت … الإنسان داخلك طيبٌ جدًّا، لكن شيطانك ليس له قرار … لا أدري كيف أقول لك! لماذا لا تفكر بجدٍّ في هذه المسألة؟ ألا تعرف أننا عندما نكبر ستكون أنت رجلًا في عزِّ العمر، وأنا امرأة بشعر أشيب …» قلت: «يا أختي الكبيرة الفاضلة … إذا كان زواجكِ من النجار هو عين الصواب ولهفتكِ على خبز المانتو المدخن، الذي يأتيكِ به، هي عين الصواب أيضًا فلماذا بخلتِ عليَّ، ولو بقليل من خبز المانتو هذا؟» ضحكت قائلة: «يعني إذا جئتُ لك بخبز المانتو فلن تغضب مني؟» قلت: «طبعًا، لأني إذا تذوقت طعم المانتو فمن المحتمل جدًّا أن تزول كل الهموم.» قالت: «اتفقنا.» قلت: «بقيت حاجة واحدة …»، «حاجة ماذا؟» حدقت فيَّ وهي تقول: «لا تكُن كمَن يتسحَّب على الأنف طالعًا للوجه، إياك أن تنتهز الموقف لأغراض أخرى.» قلت: «أريد أن أتحسَّسكِ قليلًا …» قالت: «آه … في هذه الحالة، يمكنك أن تذهب إلى زوجي وتكلمه، لأن جسمي يخصه هو وحده فإذا وافقك وقال لي إنه وافق فتعالَ وتحسَّس على راحتك.» قلت: «وهل هذه حاجات أكلمه فيها؟» قالت: «ولا أظنك تقدر أن تكلمه فيها … فلديه بلطةٌ مسنونة … ينزل بها على مخالبك، يقطعها لك أسرع من الريح في الخلاء.»
«أوهوا … مَع مَن كل هذه الثرثرة! الوقت ينقضي والشغل طويل، هاتِ الماء بسرعة.» كان العم دو قد فرد ظهره واقفًا وسط الغيط وهو يصيح بابنته.
«هذا أنا يا عم دو.» زعقتُ عاليًا، «وأنت هناك تهتم بمصالحك دون مصالح الناس، رميت لي بالثيران الثلاثة وتركتني … هل هذا كلام؟! أم أنك تجدني صغيرًا فتتجاهلني؟»
قال دو: «اصبر قليلًا يا روهان، فقط حتى آكل شيئًا وأجيء عندك.»
قلت: «أنا لم أذق شيئًا من وقت الظهر … وبطني أصبحت جلدًا على عظم.»
قال دو: «طيب يا أخي، أنا الأكبر سنًّا … وكم سرحت بالبقر طيلة الموسم الذي فات من أوله لآخره، ولأجل خاطري فقط … طلبت منك معروفًا فهل يضيرك شيء إذا صبرت قليلًا؟!»
قلت في نفسي: وللساعة ما تزال تحاول خداعي يا هذا الشيء العجوز؟! لكني لن أستسلم لخداعك مهما حاولت. ثم إني ألقيت بمِقود العجول من يدي قائلًا له: «هذه شغلتك أنت، وعندك أيضًا شوانجين يطلب الرقود على بطنه … وإذا حصل له شيء ومات فساعتها نرى مَن المسئول عن ذلك أمام رئيس الوحدة الإنتاجية.»
انزعج دو وراح يتواثب مثل القرد وهو يهرول خارجًا من الحقل، قال: «روهان … أرجوك، اسمع يا روهان يا بني … اسمع كلمتين مني.»
مال والتقط المِقود الساقط فناوله لي قائلًا: «اسمع … ابقَ أنت مع العجول الآن … وستجدني قدامك هنا بعد لقمة سريعة.»
رجع العم دو إلى بيته.
وقالت لي أوهوا بكل برود: «هل تريد أن تحسسني وأنت تعامل والدي بهذه الطريقة؟»
قلت: «وهل لو تركتِني أتحسسكِ كنت عاملته بهذه الطريقة؟»