٦
سمعت وأنا بين النوم واليقظة الثيران الثلاثة يبصقون ويصبون فوق رءوسنا الشتائم فيما كانت أشداقهم ترسل على وجهي نثار لعابها وقد أثلجته نسمات الليل البارد، اكتفى الأخوان روشي بقليل من السباب وأخلدا إلى السكوت بينما بقي شوانجين يكيل لي أقذع الألفاظ، حتى كادت غضبته العارمة أن تشق صدر الفضاء، قال: «يا من لا أصل لك ولا جنس معلوم … ما الذي جذب لسانك لكي تقول عني — برغم صفاء ما بيننا — أني وثبت على ثلاث عشرة بقرة! أما دريت أنك بهذا قد أوغرت صدر لاو تونغ ضدي حتى أشفى غليله ببتر خصيتي! ولم يكفك ما أوقعه بي من بشاعات بل إنك ذهبت عامدًا وواتتك الجرأة على ابتلاع خصيتي تلك الليلة.» وهنالك انطلق الأخوان روشي يدعمان حجته، يقولان له: بل لم يتورَّع أيضًا عن أن يقضم بيضاتنا. ثم قال لي شوانجين: عمري ما كنت أتصور أن يصدر منك هذا التصرف … عمري ما توقعته منك … يا للخسارة! أمعقول أن تكون أنت بكل هذه الوحشية؟! احتججت وصرخت بأعلى صوتي إني مظلوم في هذا كله، لكن كتلة كبيرة من شعر الثيران انحشرت في حلقي فتحشرج صوتي وانكتمت توسلاتي. فتكلَّم شوانجين مع الأخوين قائلًا لهما: «أنصِتا جيدًا يا رفاق … نحن عشنا الحياة بحلوها ومُرِّها لكننا الآن وبعد أن فقدنا خصياتنا، فالحياة والموت سيَّان، وإذا كنا فيما مضى نخاف هذا الهمجي الذي لا أصول له، فما الذي يجبرنا الآن على خشيته؟» أجاباه قائلَين له: «حقًّا ما قلت، ليس هناك ما يدعونا إلى خشيته الآن.» فقال لهم شوانجين: «ما دمنا قد اتفقنا على أنه لم يعُد هناك ما نأبه له ونخشاه، فتعالوا بنا ندقُّ قروننا في رقبة هذا الصبي السافل، لأنه من المستحيل أن ندعه يمرُّ هكذا بفعلته التي فعلها يوم أن قضَمَ خُصانا بأسنانه وشبع بها بعد جوع.» ثم تكلَّم روشي الكبير، قال: «لا أدري يا إخوتي إن كنتم شعرتم بما شعرتُ أنا به أم لا؛ إذ عندما كان يأكل تلك الخُصَى، كنت أُحسُّ كما لو أن سكينًا يشق خصيتي … فتعجَّبتُ جدًّا، لأني رأيتهم بعيني وهم يبترون هذه الأشياء من جسمي فكيف أشعر بآلامها وقد انفصلت عني!» وهنالك أجاب عليه كلٌّ من روشي الصغير وشوانجين: «ونحن أيضًا مثلك، شعرنا بها آلامًا مبرحة.» ثم أضاف شوانجين قائلًا: «لا هوادة مع الوحشية … وما داموا قساة فلا رأفة بهم، ولنبدأ فورًا بهذا الصبي السافل، فننتزع أمعاءه ثم نمضي إلى ماليان ونسوِّي حسابنا معه.»
التصقتُ بجذع الشجرة والدمع ملء عيوني، أصرخ ولا يصدر عني سوى نأمة صوت واهن كمثل طنين البعوض، قلت: لا تظلموني يا إخوتي الثيران … فماذا كنت أملك أن أصنع غير ما صار … رئيس الوحدة له الكلمة، يأمرني فلا أملك إلا الإصغاء … شوانجين، أنصت لي يا شوانجين … أستحلفك أن تتذكر جيدًا، هل نسيت؟ أمعقول أن تكون قد نسيت؟ في عز شتاء السنة الماضية كنت أنا الذي بحثت حتى لقيت مشط جدتي القديم فجئتك به ومسدت لك شعرك، ثم سرَّحت لك جسمك بطوله … رُحت أمشِّطه وأنزع عنك القمل حتى تراكم في كومة تزن نصف جين (ربع الكيلو) وأنت كذلك يا «روشي» الكبير وأخوك، كثيرًا ما كنت أمشط لكما شعركما وأزيل عنكما الأوضار والصؤبان العالقة بالأجساد … ولولا هذا لكانت تلك القراضات قد مصَّت دماءكما … ولا أنسى أن قلوبكم جميعًا كانت وقتها مليئة بالعرفان، خصوصًا أنت يا شوانجين … فقد كنت ترد لي الجميل كثيرًا بأن تلعق يدي امتنانًا … تظل تدور بطرف لسانك في ظاهر كفِّي وباطنها … فهل تعضون الآن يا إخوتي هذه اليد؟! لم يكن نكران الجميل من طبعكم. كان صوتي واهنًا لكنهم سمعوه جيدًا ولاحت في عيونهم — الغائمة بحمرة الأسى — رقرقات حُنُوٍّ دافئ أصيل. فانتهزتُ فرصة سنحت وأجريت لسان الفصاحة الذي لا يخيب، فكان ينتخب لي مأثورات مما تُستدعى به أشواق الأيام الخوالي وتذكار الود القديم. حتى رأيتهم يتبادلون النظرات وإيماءاتهم تنحو إلى إقالة عثرتي والصفح عني، فكلَّمتهم قائلًا: لن أنسى جميلكم يا إخوتي الثيران، إذا عفوتم عني … لن أنسى صنيعكم ما حييت وحين يصير زمام الأمور بيدي فسأنتقي لكم أجود العلف وأعفيكم من مشاق العمل في الأرض، وآتي بمروحة وأقلِّب الهواء فوق أجسادكم، فأنشف عرقكم في سخونة نهار الصيف، وأخيط لكم أردية من أقطان مع حلول الزمهرير فتصبحون أسعد ثيران على ظهر البسيطة، وتمتلئون فرحة، وينظركم الناس وليس لهم في مثل هناءتكم مثيل.
كنت أتطلع إلى عيون الأخوين «روشي» أثناء توسلاتي المعسولة، فإذا بالدمع فيض ينسكب بأحداق مرهقة. قال شوانجين: لا نريد مروحة في يدك ولا أنت على الحقيقة آتٍ لنا بيدك فيها مروحة، وانسَ فكرة أن تخيط لنا الأقطان أردية، لأنك عن يقين لن تحيك لأجلنا أردية نسيجها أقطان، وإلا فما كان أجدر بك أن ترتق مزق ثيابك المهترئة، وكلما أكثرت من كلام لا ينطلي على أحد تجاوزت وبان زيفك، ومرادك المراوغة ريثما تجد مهربًا، فمن شق تلوذ بنجاتك وحين تنجو بجلدك تنسلُّ كمثل أرنب في برية، تمضي ولا من يجد وراء ك الأثر. قلت: القروي مثلنا يا إخوتي، لا يحنث في يمين، ولا يخون كلمته، والنية الصادقة في قلبه أثبت من الوعد. فقال شوانجين: «ليتك تبطل عزفًا على هذه النغمة السخيفة المملة … فلطالما سمعناها صغارًا حتى مللناها فانسدَّت دونها آذاننا … غاية مثل هذه الكلمات الرضوخ لليد الغليظة، تغدو بنا ساعة إلى سفح الوعر الجبلي، وتروح بنا ساعة أخرى إلى حضيض وحل الشاطئ، «أليست هذه هي الغاية؟ قل لي … أليس ذلك هو المقصود؟»» وافقته تمام الموافقة، مطأطئًا رأسي علامة الإيجاب فاتجه شوانجين إلى الأخوين «روشي» قائلًا لهما: خذا بمشورتي وانتهزا الفرصة قبل انبلاج الصبح، فتعالوا نُجهِز على ابن الأوباش هذا! وكان أن نصب الثلاثة قرونهم الصلبة تجاهي، وبكل قوتهم رشقوها في بطني، فصرخت من هول النطحة، وفتحت عيني على اتساعها، فرأيت كرة الشمس الحمراء تطلع من خلف سد النهر.
كرة الشمس الحمراء طلعت من وراء سد النهر باهرة الضوء، فلما تألَّقت أخذتُ أرمقها حتى أزاغت عيني بنثار شعاع ذهبي ففركت عيني ونظرت حولي، فصُعقت وهالني المنظر … منظر العجول وقد انبطحت ثلاثتها على الأرض، رغم أنها مربوطة … والحبل غير مقطوع، فكانت أعناقها ممطوطة بطول جذع الشجرة، وقد تقلَّصَت أسنانها من الألم، وغامت عيونها كالموتى شنقًا، فرُحت أحملق فيها كأني لا أصدق ما أراه، حتى استوعبتُ تمامًا أنها بالفعل قد بركت على الأرض، فقفزت من مكاني غير عابئ بما أصاب جسمي من تيبس إثر إغفاءتي على الأرض الصلبة، ورحت أجذب الحبال، لكنها كانت مشدودة عن آخِرها حتى توتَّرت، وتعذَّر جذب الثيران بها، وهي على هذا الوضع، فما العمل؟ لم أعُد أملك إلا أن أرفسها في مؤخرتها تحفيزًا لها على النهوض، لكنها لم تتحرك قيد شعرة، فسقط قلبي من الرعب، وقلت أصابها سوء فماتت … ماتت ثلاثتها على هذا الوضع، مشنوقة بمِقودها، ولا بد أنها انتهزت فرصة استغراقنا في النوم، فاتفقت كلمتها على الانتحار معًا، لأنها ما عادت تستطيع اتخاذ رفيقات حياة، عمرها بطولة لن تكون لأي منها زوجة، والحياة على هذا النحو لا تستأهل أن تُعاش ومن ثَم كان الانتحار شنقًا هو قرارها. وعندئذٍ فقط نظرتُ حولي فتذكرتُ العم دو، ذلك الكائن المغبرَّ القديم … انسلَّ خفيةً تحت جنح الليل، منتهزًا فرصة نعاسي، ليُلقي عليَّ بتبعة موت الثيران. وفي تلك اللحظة امتلأ قلبي كراهية له … كراهية سوداء أنستني حبي ﻟ «أوهوا. دو رومن» … آه يا دو رومن الكلب! سأصرخ في البرية ببغضي لك رغم أني أعرف أنك لن تسمعني … سأردِّد في الأنحاء مثالبك وأقرن اسمك بكل نقيصة ولن أغفر لك! لو كنت قبالة عيني الساعة، لوثبتُ عليك كما السبع الضاري وافترستك حيًّا، وأنقذت الثيران مما أصابها على يديك، فلا مفر من افتراسك ثأرًا لها. فكنت أوسِّع الخطو مهرولًا صوب غيط العم دو وهناك لمحته يجلس وسط الزرع كمثل القرد وهو يحشُّ الكراث، والأرض من حوله بعد حشِّه، تبدو كالرأس الحليقة بالموسي الحامية، وأكوام الكراث متراصَّة بجوار بعضها بعضًا، وكان قد قام، هو وابنته أوهوا، بمهارتهما الحاذقة، وفطنتهما الأريبة، بتجميع الأكوام في ربطات مُحكَمة، ثم قامت أوهوا بنقعها في جردل الماء وكلما أخرجت منها حزمة بدَت سيقان الكراث لامعة وممتلئة بعد تشبعها بالمياه، فكان منظرها الطازج رائقًا وبديعًا، وكل ربطة مدلاة بيدها تتقاطر من أطرافها قطرات الماء مثل بللورات لؤلؤية انصبَّت في الإناء الكبير، إلا أنها قطرات تساقطت فرجرجت سطح الماء كما لو كانت سلسال بول متقطع يطرطش رذاذه في حواف الآنية. كم كان منظر الكراث المتشرب مياهه بديعًا! وكم كانت البنت الممسكة بربطاته أكثر روعة وبهاءً! وبرغم ما كززته تحت أضراسي من بغض دفين لأبيها، فلم أكن أطيق الإغضاء عن فتنتها، والأنثى، أية أنثى على وجه الأرض، إذا ما لامست الماء تجلَّت فتنتها، وبالطبع فالأنثى الفاتنة تزداد جمالًا وهي بقرب الماء، بل حتى لو لم تكن جميلة من الأساس، فمجرد اقترابها من غور بئر أو نهر جارٍ أو ما شابه يُضفي عليها مَسحة من جمال، ولك أن تعرف ذلك بنفسك إذا تطلَّعتَ إلى فتاة تستحم في نهر أو تمشط شعرها بجوار عين صافية … أو تنقع الكراث في سطل ماء وسط خلاء المزارع.
ألقت الشمس بنورها فوق وجه أوهوا المدوَّر الممتلئ الأملس، فالتمع خداها كمثل رقاقة زجاجية ناعمة مشبعة بالحمرة الساطعة، وكانت ضفيرتاها تتدليان مكتنزتين بالشعر الغزير الطويل الداكن … آه، لو لم تكن أوهوا موجودة ذاك الوقت لسببتك بأعلى صوتي يا عم دو: يا دو رومِنْ، يا بن القحبة، ماتت العجول يا بن المنكوحة! لكن ما باليد حيلة وأوهوا موجودة بالقرب منك، فلأجل خاطرها أقول لك بالصوت المسموع: «ياعم دو … أما دريت بالمصيبة؟»
رفع رأسه وسألني: «روهان؟ أنت هنا وقد تركت البهائم، ما الذي جاء بك تتسكع هنا؟»
قلت: «تعالَ انظر بنفسك ما حصل للثيران … الثيران ماتت يا عم دو …»
من وسط الحقل قفز كالفهد الوثاب، سألني: «ماذا قلت؟»
قلت: «الثيران ماتت … ثيراننا الثلاثة ماتت …»
«غير معقول!» جاء يجري بظهره المحدودب وهو يردد، «هذا غير معقول، أنا تركتها معك وهي في غاية الصحة والعافية، فما الذي جرى؟ كيف تموت هكذا في غمضة عين؟»
– «ولا أنا أعرف ماذا جرى لها بالضبط، لكنها ماتت ويبدو لي من شكلها أنها انتحرت.»
– «ما هذا الكلام العبيط؟! أنا عشت ثماني وستين سنة لم أسمع فيها عن ثيران تنتحر!»
هرع العم دو تجاه الثيران عند جذع الشجرة.
قالت لي أوهوا: «أتظن أني أصدق ألاعيبك؟ ما غرضك من هذه اللعبة؟»
قلت: «لعبة ماذا؟ ولماذا ألاعبك؟ أبوك هو الذي أهمل الثيران ورجع إلى بيته لأجل مصالحه الانتهازية، فكانت النتيجة أن الثيران علقت رقبتها بالحبال وماتت!»
«أتتكلم بجد؟» ألقت ما بيدها من ربطات الكراث وأسرعت تجاهي، ثم أمسكت بيدي وجرينا معًا صوب سد النهر، قبضت كف يدها على يدي بقوة كماشة صلبة، كانت ذراعها قوية وخطوتها أسرع من ريح، حتى أن كعب قدمي — وأنا أجري ممسكًا بيدها — لم تكن لتلمس الأرض من شدة الجري، وكانت أثناء ذلك تقول لي: «ماذا جرى لك أنت الآخر … افترض أن أبي غاب عنك لظرف ما، ألم تكن أنت موجودًا مكانه لترعى الثيران؟»
أجبتها لاهثًا: «كنت نائمًا.»
«كيف تنام وتسهو عن العجول؟» باستنكار قالت ذلك وهي تؤاخذني.
قلت: «وكيف كان لأبيك أن يعود إلى بيته ليحصد زرعه، إن لم يحط عليَّ النوم؟»
فكَّرتُ أن أسترسل فيما قد يغضبها، لكني رجحت أن سيل الشتائم الكامن تحت لساني قد يحزنها لو سمعته، ثم إننا كنا قد بلغنا شجرة الخوايهوا.
العم دو مدَّ يده وحاول أن يسحب الثيران بالحبل، لكنها لم تتزحزح عن مكانها، فقلت في نفسي إن المواشي هلكت وانتهى أمرها، فماذا يفعل هذا الأهبل، وهو يحاول تحريك عجول انقطعت منها أنفاس الحياة! وحاول الرجل أيضًا أن يجذب ذيولها ليُنهضها من رقدتها دون جدوى، فاستغربت لهذا الذي يُنهض الموتى من غفلة الأبد. لكن الشيء الغريب حقًّا، هو أن محاولاته المتكررة في الإنهاض، وإن لم تفلح تمامًا، فقد أسفرت عن هزة ضئيلة من ذيل شوانجين … يا للسماء، فهو ما يزال على قيد الحياة إذَن، وما دام حيًّا فلا بد أن الأخوين «روشي» قد أفلتا من قبضة الموت مثله وبالفعل فقد لاحظت أن أذن «روشي» الكبير تختلج قليلًا، بينما كان أخوه الأصغر يلعق أنفه، فكانت نجاة العجول من شبح الموت باعثًا لفرحتي، ثم كانت نجاتها في الوقت نفسه، لما تدبَّرتُ الأمر قليلًا، هي الباعث على تعاستي أيضًا، فقد كنت وقتئذٍ في مبتدأ الشباب ومطلع الشغف بكل ألوان اللهو والإثارة، حتى ضجَّ بي أهل القرية وعافتني كلابها أيضًا. كم وددت لو أن بالقرية دار سينما تقدِّم عروضها اليومية، وكان هذا المستحيل بعينه، وكم تمنيت — لكثرة ما استبدَّ بي الفضول إلى الإثارة — لو تخانق أهل القرية يوميًّا ونشب بينهم العراك، لكن ذلك لم يكن ليتحقق على النحو الذي أريده، ثم كم حلمت بأن تقوم ميليشيا الحرس الأحمر بالانقضاض على الأفاقين والسفلة والرعاع، فتضرب على أيديهم وتنكل بهم، لكن هذا كان ضربًا من الوهم. وإذ تعذَّر وقوع كل تلك الحوادث الباعثة على الإثارة فلم يبقَ — على الأقل — إلا أن تتسافد ثيران القرية وأبقارها، وتنزو كلاب السيد تشانغ (فلان) على كلاب العم ليو (علَّان) وتظل تتواثب ذكورها على إناثها ليل نهار، فرجة للنظارة وتسلية للوقت، بيد أن هذا كان بالقطع أبعد منالًا، فلما جاء الرفيق لاو تونغ واستأصل خصى الثيران، أصبح المشهد حافلًا بكل جوانب الإثارة، لكن هل كان من الممكن تكرار ذلك المشهد يوميًّا؟ بالطبع لا، فمن ثَم فكرتُ أن الجلبة الناشئة عن حكاية انتحار العجول الثلاثة، دفعة واحدة، كفيلة بأن تهز أرجاء القرية من أدناها إلى أقصاها، ثم إن هذا الحدث الجلل يتصل بي اتصالًا مباشرًا، وبالتالي فمثل هذه الصلة بيني وبين الوقائع، فيما أظن ولعلك تتفق معي، كفيلة بأن تجعلني موضع الاهتمام بحيث تضفي على حياتي وجاهة أو قيمة ما، تدفع الناس إلى التطلع تجاهي بكل لهفة، استجلاءً لملابسات الحادث واستفهامًا لتفاصيل ما جرى، بما يستتبع هذا كله من زهوٍ وتيهٍ وفخار يشملني رائحًا وغاديًا. غير أن الثيران لم تنفق، وبقيت فيها الروح. وراح العم دو يتطلَّع نحوي بعينيه، الواسعة والضيقة كلتيهما، ثم زمجر صارخًا في وجهينا، أنا وابنته قائلًا: «أين كنتما؟ هل نزل عليكما الموت فجأة!»
ما معنى كلمته هذه؟ ماذا يقصد هذا الشيء العجوز بكلامه، وما معنى أن يقرن موتي بموت ابنته في وقت واحد؟ عمومًا، وبرغم غضبته الواضحة في ثنايا مقصده، فقد تلمَّستُ دلالته الخفية، وفهمت أنه يربط بيني وبين أوهوا في تلميح مشوب بخفاياه، وهو ما لا أنفر منه بل على العكس، فلطالما شعرت بأن ثمة علاقة غير عادية تربطني بها، إذ سبق أن …
– «لا تقفا هناك وأنتما تنظران إليَّ ببلاهة هكذا، تعالَيَا ساعداني على إنهاض الثيران.»
تقدمت سريعًا وقبضت على ذيل شوانجين.
دفعتني أوهوا جانبًا دون أن تكلمني، وانحنت وقبضت بقوة على ذيل العجل.
فتقدمت ثانية وأطبقت على عنق الثور بيديَّ.
أزاحني العم دو جانبًا، وانحنى فاحتضن عنق الدابة ليُنهضها.
فلم أملك أخيرًا، إلا الوقوف بجانب أوهوا، أشد على معصمها.
بجهدنا معًا، أقمنا شوانجين من عُسر رقدته.
خشيت أن يشتد بنا العزم، تحت وطأة الجد، فينخلع الذيل من جسد الثور، ولو أني كنت بحق، أتطلع شغفًا إلى انفصال الذيول عن مؤخرة الثيران فمثل هذا البتر، لو حصل فعلًا، سيكون بالتأكيد حدثًا يستدعي أحاديث وحكايات قد يصل مبلغ الإثارة فيها درجات أعظم مما كان متوقعًا في حادثة نفوقها، لكننا أنهضنا العجول وذيولها باقية في أعجازها.
بعد شوانجين اجتهدنا فأوقفنا «روشي» الكبير حتى ثبتت أقدامه.
ثم لم نلبث حتى رفعنا أخاه الأصغر إلى أن اعتدل واقفًا.
فلما اكتمل وقوفها أمامنا، دار العم دو من ورائها وراحَ يتفحَّص ما بين أفخاذها وهو مطأطئ الرأس، ينظر موضع جروحها مليًّا.
مِلنا أنا وأوهوا برأسَينا أيضًا، ونحن نستطلع ما خفي من بواطن عذاباتها.
كيس الصفن لدى الأخوين «روشي» كان متورمًا بعض الشيء.
المشكلة كانت فيما أصاب كيس خصية شوانجين من تورُّم ظاهر، بدا متضخِّمًا مثل جوال صغير منتفخ حتى آخره، وربما زاد في ضخامته عما كانت عليه الخصية وهي سليمة في مبتدأ حالها، والأسوأ هو لونها الضارب إلى الحمرة غير العادية، ثم تفاقم الأمر مع الحمى التي لفَّت جسده، حتى انبعثت منه سخونة لفحتني وأنا واقف بجواره، كأنها لهيب أفران حامية.
قام العم دو بفك الحبل من حول جذع الشجرة، فسلمني مقود الأخوين «روشي»، وسحب شوانجين فمضى وهو يكلِّم أوهوا قائلًا لها: «ارجعي إلى البيت حالًا، وقولي لأمك أن تجهز لنا طبق «تساميان» (شعرية مسلوقة) ريثما أعود برفقة روهان ليتناول الطعام معنا.»
تطلَّعت أوهوا إليَّ وتفحصتني كأنها تراني لأول مرة، فتطلعت بدوري إلى أبيها كأني لم أرَه إلا اللحظة … كأني أقابله لأول مرة في حياتي، وقلت في نفسي: هي ذي الشمس تطلع من الأفق الغربي. ثم حانت مني التفاتة ثانية إليه، فبدا لي وجهه مشرقًا بالحنان والعطف، وقلت إنني طوال الأربعة عشر عامًا التي عشتها على ظهر الدنيا لم ألتقِ برجل عجوز في مثل دماثة خُلق العم دو وروحه الطيبة الحنون.
سحبنا الثيران ومشينا، وفي الأزقة تمهَّلنا، فكان العم دو يسعل قليلًا ويقول لي: «ولد يا روهان … أنت بالحق عاقل ورزين، وعندك مواهب لا يعرف الناس قدرها، فالناس كالعادة عيونهم عيون الكلاب، تنكسر للكبير وتتسلط شزرًا على الصغير، فاسمع مني كلمة أقولها لك الساعة وستذكرها ما حييت … أنت بعد عشرين عامًا من الآن، ستصير شخصًا مرموقًا!»
كم أحببت ساعتها أن أستزيد من كلام العم دو.
قال: «ليلة أمس لم ننم، لا أنا ولا أنت ذقنا طعم النوم، وظلَّت عيوننا على العجول، ومع ذلك فقد تورَّم جرح شوانجين وتضخم للغاية، مما يدل على أنه ما كان ينبغي أن تُجرى له عملية الاستئصال، وهو ما قاله الرفيق لاو تونغ أول الأمر وألحَّ عليه، فرفض رفضًا قاطعًا أن يستأصل له خصيتيه، لا سيما وقد سبق له الانتزاء على الأبقار، لكن عمك ماليان أصرَّ على الإخصاء، وكنت أنت شاهدًا على ما حصل، لذلك أقول لك إنه إذا حدثت مشكلة ومات الثور، مثلًا، فالمسئولية في ذلك لا تقع على رأسينا، فكلانا بريء منها، فهل أنت معي في هذا، وهل قولي صحيح؟»
بثقة تامة أجبته قائلًا: «صحيح جدًّ!»