وأنا أختلف مع كل هذه الإيحاءات، وسوف أحاول أن أوضِّح وجهةَ نظري فيما يلي:
(١) مصطلح التكنولوجيا
هناك لَبْس شديد في رأيي في استخدام مصطلح التكنولوجيا؛ فهذا المصطلح يُستخدَم
للدلالة على مضامين: العُدَد
والآلات والمعدات Equipment, Machines or Hardware؛ وعلى الأساليب أو الطرق أو التقنيات Techniques اللازمة للإنتاج أو لأداء النشاط الإنساني
عمومًا؛ وعلى تطوير هذه الأساليب.
فهناك ضرورة للتفرقة بين الطريقة أو التقنية Technique، وبين العُدَد والآلات التي أحيانًا ما يمتد تعريفها ليشمل
كافة العناصر المادية اللازمة للإنتاج، من خاماتٍ سبق تصنيعها أو إعدادها، وعُدَد
وماكينات وتجهيزات ومبانٍ؛ فأي تقنية يحتاج تطبيقُها إلى وسائط مادية يتمُّ تجهيزها بما
يتفق مع متطلبات التقنية نفسها. ومع التطور العلمي والتكنولوجي المتسارع الإيقاع،
يُختزَن المزيد من مكونات التقنية في العُدَد والآلات، بل في الخامات نفسها التي سبق
تصنيعها أو إعدادها وفقًا للتقنية. والتفرقةُ ضروريةٌ؛ أولًا: لاختلاف طبيعة العُدَد
والآلات عن التقنيات، وثانيًا: لاختلاف أسلوب التعامُل معهما؛ فأنا أستطيع أن أشتري أو
أن أملك العُدَد والآلات دون أن أعلم بالضرورة شيئًا عن التقنيات، وبالعكس؛ فإنني
يمكنني أن أحوز التقنية أو أتعلَّمها دون أن أشتري العُدَد والآلات التي تُستخدَم في
الإنتاج أو النشاط الإنساني عمومًا.
وهناك ضرورة للتفرقة بين التقنية؛ طريقة إنتاج منتج سلعي أو خدمي، وبين تعديل التقنية
أو التوصُّل إلى تقنيات جديدة للإنتاج؛ التقنية تحدد أسلوب أداء النشاط الإنتاجي أو
الإنساني، أي إن التقنية ترتبط عضويًّا بالنشاط الإنتاجي نفسه وتمثِّل جهازه العصبي إن
صحَّ التعبير؛ حيث إن أي نشاط إنتاجي لا يتم إلا عبر تقنيةٍ ما، أما «تعديل التقنية أو
التوصُّل إلى تقنيات جديدة فهما التكنولوجيا، والتكنولوجيا بهذا المعنى قدرةٌ تتعلَّق
بنشاطٍ يتمُّ في مستوًى أعلى من المستوى الذي يجري فيه الإنتاج نفسه، ويرمي إلى تعديل
تقنية الإنتاج أو التوصُّل إلى تقنيات جديدة».
نَخلُص مما سبق إلى أن التكنولوجيا تمثل نمطًا للفعالية الإنسانية يتمتع باستقلالية
نسبية عن النشاط الإنتاجي نفسه، وكذلك عن العِلْم؛ فالنشاط الإنتاجي يستهدف إنتاج سلع
أو خدمات مطلوبة للمجتمع، والعلم في التجريد النهائي يستهدف الوصول للحقيقة، في حين أن
هدف التكنولوجيا تغيير الواقع. والتكنولوجيا بهذا المعنى هي نتاج حضاري وأداة في نفس
الوقت لإعادة إنتاج الحضارة؛ ولهذا فإن الاستمرارية الحضارية — أي قدرة الحضارة على
إعادة إنتاج نفسها والحفاظ على وجودها — رهن بالفعالية التكنولوجية؛ فكما أن ضمور
القدرات التكنولوجية يؤدي إلى الاغتراب والضمور الحضاري؛ فإن الإبداع التكنولوجي الذاتي
هو إحدى الأدوات الهامة للتجدد الحضاري.
التكنولوجيا بهذا المعنى هي رفيق ملازم لمسيرة التطور الإنساني على مر العصور، وإن
وجود النهاية logy في مصطلح التكنولوجيا Technology لا يعني أبدًا بالضرورة ارتباط
التكنولوجيا بالمنهج العلمي التجريبي، كما ظهر وساد في الغرب خلال القرون الثلاثة
الماضية، وما يستتبعه ذلك التصوُّر الخاطئ من أن التكنولوجيا كقدرة أو نمط للفعالية
الإنسانية غربية الطابع والمنشأ، وما يحولها في الكثير من الأدبيات الشائعة إلى سلعة
غربية تُشترى وتُنقل.
نستنتج من الفهم السابق للتكنولوجيا أولًا: أنه من الممكن أن يكون هناك علم دون أن
تكون هناك تكنولوجيا؛ أي إنه يمكن أن يجري نشاط علمي مكثَّف دون أن يكون له أي مردودٍ
تكنولوجي، أو أي مردودٍ يتعلَّق بتحسين الواقع الإنتاجي والتفاعل معه. ثانيًا: أنه من
الممكن أن تكون هناك تكنولوجيا دون علمٍ بالمعنى السائد للعلم حاليًّا؛ أي إدراك
النظرية العلمية والقوانين العلمية الحاكمة للظاهرة في صورتها العامة والمجردة، إلا أن
هذا لا يمنع من وجود إدراكٍ ما للحقيقة العلمية، ولو في بعض صورها الخاصة، عن طريق
تراكم المشاهدات والخبرات، بالإضافة إلى الحَدْس لدى هؤلاء التكنولوجيين المجهولين في
التاريخ، الذين كانوا وراء اختراع الكثير من التقنيات الهامة التي ما زالت تبهر أبصارنا
وعقولنا حتى الآن، كبناء الأهرامات والمسلات والتحنيط إلى آخِره.
(٢) نقل التكنولوجيا؟
أصبح مصطلح نقل التكنولوجيا
Technology Transfer من
أكثر المصطلحات شيوعًا في مجالات التنمية والعلاقات بين الشمال والجنوب؛ الشمال
المتقدِّم تكنولوجيًّا، والجنوب المتخلِّف تكنولوجيًّا ونحن منه. إن المصطلح كما
يُستخدم اليومَ مرتبط بمغالطتين في منتهى الخطورة أتحدث عنهما فيما يلي:
-
يفترض المصطلح علاقةَ نقلٍ أحاديةَ الاتجاه بين طرفين؛ أحدهما فاعل
إيجابي يعطي، والآخر سلبي متلقٍّ يأخذ، وتشبه عملية النقل ملء وعاء شاغر لا
يتغيَّر شكله خلال عملية النقل. وأخطر ما يرتبط بهذا التصور الافتراض
الضمني أن الطرف المتلقِّي ليست لديه تكنولوجيا؛ فالفهم الدارج لنقل
التكنولوجيا لا يضع اعتبارًا للتفاعل مع أي قدرات تكنولوجية محليةٍ ما؛ إنه
يفترض وجودَ «فراغ» تكنولوجي يتوجَّب من ثَمَّ «مَلْؤُه».
-
يفترض المصطلح أن التكنولوجيا هي «شيء» يمكن نقله ببساطة من سياق اجتماعي
حضاري لآخر، وأن العملية تخضع لاعتبارات فنية اقتصادية محضة.
وتؤكد الدروس المستفادة من هنا وهناك في دول الجنوب أن التكنولوجيا — كقدرة — غير
قابلة للنقل عمومًا، وأن ما جرى — ويجري — نقله هو المعدات أو
الآلات Equipment,
Machines or Hardware وبدرجةٍ أقلَّ التقنياتُ؛ مما حدَا بأنطون زحلان إلى سكِّ
مصطلح النقل الخالي من
التكنولوجيا Transfer-free-of-technology لوصف تجربة محمد علي في بداية القرن الماضي، وتجارب الدول
العربية خلال فترة الستينيات والسبعينيات في مجال نقل التكنولوجيا بالمفهوم السابق.
صحيح أنه من الممكن انتقال مكونات للقدرة التكنولوجية مع المعدات والتقنيات، إلا أنه
إن
لم تُبذَل جهود مضنية على التوازي لبناء قدرات تكنولوجية ذاتية، فلن يحدث الهضم الصحيح
والتمثُّل لهذه المكونات.
إن الفهم الخاطئ لمصطلح نقل التكنولوجيا ينبع من الخلط بين مفهوم الطريقة Technique ومفهوم التكنولوجيا Technology، ولكي نوضِّح هذا الخلط يمكننا تشبيه التقنية بالفكرة،
والتكنولوجيا كقدرة بالتفكير؛ فالتقنيات هي نتاج للتكنولوجيا كقدرة، كما أن الأفكار
نتاج للقدرة على التفكير، والأفكار قابلة للنقل، كما أن التقنيات قابلة للنقل أيضًا
بدرجات متفاوتة من الدقة، لكن هل القدرة على التفكير قابلة للنقل؟ أو هل يؤدي مجرد نقل
الأفكار إلى اكتساب القدرة على التفكير؟ الإجابة المفترضة هنا بالنفي، وكذلك لا يؤدي
مجرد نقل التقنيات إلى انتقال القدرة على إبداع التقنيات أي التكنولوجيا، بل إن نقل
تقنياتٍ غيرِ مناسبة — سواء أكانت بصورة صريحة أم مجسَّدة في معدات أو خطوط إنتاج — قد
يؤدي إلى الإضرار بنمو القدرات التكنولوجية الذاتية، «يمكننا إذن صياغة المعيار التالي:
نقلُ المعدات أو التقنيات مبرَّرٌ تكنولوجيًّا فقط إذا أدَّى إلى حفز وتنشيط ودعم
القدرات التكنولوجية الذاتية.» إن خطورة الموقف القصير النظر وغير الصبور على البناء،
والسائد في المنطقة العربية بأسرها، والقائم على فكرة «شراء العبد ولا تربيته»، والذي
يقوم على استبدال بناء القدرات التكنولوجية الذاتية بمجرد شراء المعدات أو/والتقنيات؛
يؤدِّي إلى نوعٍ من إدمان التبعية للأقوياء تكنولوجيًّا؛ فالتسارع الهائل في التطور
التكنولوجي سوف يجعل من الضروري الاعتماد على الآخر في استيراد المعدات والتقنيات، التي
سوف تتقادم معنويًّا بشكل أسرع جدًّا مما سبق، كما يحدث الآن مثلًا في مجال الكمبيوتر،
«وليس هذا على الإطلاق دعوةً للانغلاق دون المنجَزات التقنية الحديثة، بل دعوةٌ
للاهتمام بالمردود التكنولوجي لعلاقتنا بالعالم، وقد يبدو مناقِضًا — لكنه صحيح —
القولُ إنه كلما زادت قدراتنا التكنولوجية الذاتية، تمكنَّا أكثر من انتقاء وهضم
واستيعاب تقنيات ومكونات تكنولوجية تُنقَل إلينا من الخارج، وتؤدِّي من ثَمَّ إلى
المزيد من تقوية قدراتنا التكنولوجية.»