الأغنياء: إنهم يقودوننا على طريق الاستيراد
(١) زراعة الغابات الشجرية في مصر: فرصة تنموية جديدة
رُشِّحْتُ للقيام بدور الباحث الرئيسي ممثِّلًا مصر في مشروع للتعاون بين جامعة ميونيخ بألمانيا وجامعة عين شمس، في مجال الاستفادة من الغابات الشجرية المزروعة على مياه الصرف الصحي المعالَجة. أذهلتني القيمة التنموية لهذا المشروع! يمكننا الآن استثمار ٥٫٥ مليارات متر مكعب من مياه الصرف الصحي لزراعة غابات شجرية على مساحة ١٫٥ مليون فدان، ممَّا يوفر فرصَ عمل كثيرة ويُحسِّن البيئة بامتصاص ثاني أكسيد الكربون بمعدل ١٠ أطنان للفدان سنويًّا.
والأكثر من ذلك أن معدل نمو الأشجار الخشبية في مصر ٤٫٥ أمثاله في ألمانيا؛ نظرًا لتميُّز مصر بمعدل عالٍ لسطوع الشمس! إنك تحتاج كي تحصد ناتج زراعة الغابات في ألمانيا من ٨٠ إلى ٢٥٠ سنة، في حين أنك تحتاج في مصر لأغلب السلالات التي نجحت بالفعل من ١٥ إلى ١٧ سنة فقط، أيُّ كنزٍ هذا كنَّا غافلين عنه؟
(٢) ثقافة تفضيل الأخشاب المستوردة: عقبة كئود
ذكَّرَني هذا الأمر برحلتنا مع جريد النخيل والعديد من الخامات (الموارد) المحلية، فعندما بدأنا بحوثنا على جريد النخيل كنَّا نُواجَهُ في المجتمع العلمي بالكلية (كلية الهندسة، جامعة عين شمس) بمشاعر السخرية والتهكُّم إزاء اهتمامنا البحثي بجريد النخيل؛ فلقد تعوَّدنا — بل تربَّينا — على احترام الحديد الصلب والزهر والألومنيوم، وفي المقابل على النظر باستعلاء — وربما باحتقار — للخامات والموارد الزراعية كجريد النخيل وحطب القطن وقش الأرز … إلخ. كنت أقصد — عندما يبدأ طالب الدبلوم أو الماجستير دراسته معي على جريد النخيل — أن آمره بأن يحمل جريدة النخيل، ويذهب بها إلى ورشة النجارة لتشغيلها على مختلف الماكينات: الرابوه والتخانة والمنشار … إلخ. كنت أريد بهذا أن يواجِه الطالب مشاعرَ الاحتقار التي ترسَّبَتْ في نفسه إزاء جريد النخيل، وأن تتغيَّر هذه المشاعر تدريجيًّا من خلال اكتشافه لما يحوزه هذا الموردُ من إمكاناتٍ تتبدَّى عبر تعرُّضه لعمليات التشغيل المختلفة. إلا أن النجاحات العلمية والتكنولوجية التي حقَّقناها مع جريد النخيل والعديد من المواد اللجنوسلليلوزية، غيَّرت تدريجيًّا من نظرة المجتمع العلمي لهذه الموارد المحلية!
وسألت نفسي، بعدما أكَّدت نتائجُ بحوثنا العلمية بشكل قاطع وحاسم أن جريد النخيل — كنموذج للعديد من المواد المتجددة اللجنوسلليلوزية — يضاهي الأخشابَ المستوردة في الخواص الميكانيكية والطبيعية: ما هي مشكلة جريد النخيل؟ الإجابة في ظني أنه يقع — إنتاجًا وتصنيعًا واستهلاكًا — في دائرة الفقر. من هذا المنطلق فإنني إن أردتُ تقييمَ إنجازاتنا مع جريد النخيل (تصنيع ألواح الكونتر والباركيه وبدائل الأخشاب والأثاث العصري) من الزاوية الاجتماعية؛ فتقييمي هو أننا تمكنَّا من تقديمه في صورة جديدة كمنتجات تقبَّلَتْها الطبقات الاجتماعية الأعلى، وأننا بذلك قد أزلنا «الوصمةَ» التي علقت به كخامة الفقراء!
تذكَّرْتُ أيضًا — عندما كنتُ أقوم بدراسة نمط المسكن العرايشي عام ١٩٧٩، بما يضمُّه من عناصر متميزة مثل السقف من جريد النخيل وسائر المنتجات المحلية — كيف كان الكثيرون من مثَّقفي العريش يشعرون بالخجل إزاء أسلوب حياتهم التقليدي وكل ما ينتجه مجتمعهم محليًّا؛ نتيجة لانبهارهم بالنموذج الغربي الذي جاء إليهم عن طريق إسرائيل؟ وكيف كان لديهم تحيُّز مسبق يدين كل ما هو تقليدي وموروث بالتخلف والرجعية!
(٣) البُعْد التاريخي
(٤) التحدي الرئيسي لمشروع الجريد: إعادة اكتشاف مواردنا الخشبية المحلية
أشعر أن المشكلة الأساسية فيما يتعلق بأخشابنا — وسائر مواردنا — المحلية لا تتمثَّل فيها باعتبارها موادَّ بالمعنى الفيزيائي، بل في علاقتنا نحن بها، أي إنها مشكلة حضارية. يبدو أن انبهارنا بالنموذج الغربي وتعلُّقنا بكل ما ارتبط به من أساليب للحياة وأنماط للاستهلاك والإنتاج، ورغبتنا الجامحة في الالتحاق بهذا النموذج بأسرع ما يمكن، قد جعلنا نفقد الشعور بالقيمة؛ قيمتنا نحن كبشر وذوات، وقيمة ما نحوزه من خبرات وتراث تقني وموارد محلية؛ حتى إننا عدنا لا نرى أنفسنا وما نحوزه من خبرات وموارد إلا من خلال عيون الغرب، مما أفقدنا من ثَمَّ متعةَ الاكتشاف؛ أن نكتشف مواردنا بأنفسنا ولأنفسنا، كما فقدنا القدرةَ على المبادرة في علاقتنا بمواردنا المحلية.
إنني أرى أن التحدي الرئيسي للمشروع الجديد بين جامعتَيْ ميونيخ وعين شمس، يتمثَّل في إعادة اكتشاف مواردنا الخشبية المصرية؛ سواء أكانت منتجات الغابات الجديدة المزروعة على مياه الصرف الصحي المعالَجة، أم الأشجار الخشبية التي اصطحبتنا خلال مسيرتنا الحضارية الطويلة مثل الجميز والتوت والسنط، أو أشجار الفاكهة. نحن مُطالَبون بأن نقدِّم طبعةً عصرية لهذه الموارد شاملة الخواص الميكانيكية والطبيعية، وفقًا للمواصفات القياسية العالمية مقارَنةً بالأخشاب المستوردة، وأن نساعد بنات وأبناء مصر على أن يروا مواردهم بعيون جديدة؛ ممَّا يسهم في بناء ثقافة جديدة للتعامل مع الموارد المحلية من أجل التنمية.