الأسود الذكي مرة أخرى

تحوَّل النهار إلى ليلٍ، ولم يعد من الممكن رؤية شيءٍ على الإطلاق. وظلَّ «تختخ» و«لوزة» واقفين بجوار الجدار، وأحسَّ «تختخ» بالندم الشديد، لقد ترك أدواته الدقيقة في الداخل؛ الأدوات التي يُمكن بها أن يفتح أي بابٍ أو أي نافذةٍ، لقد أصبحوا جميعًا في مصيدة الطبيعة تعبث بهم كما تشاء … وفجأة خُيِّلَ «للوزة» أنها ترى شَبحًا في ظلام الرمال، شيئًا يتحرك ثم يقترب … وضغطتْ على يد «تختخ» فمالَ عليها وقالت له: هناك شبحٌ قريبٌ!

واقترب الشبح، وعندما أصبح بجوارهما عرفا فيه على الفور «نبيل» في ملابس الغوص وبيده حربة الصيد.

لم يكن هناك وقتٌ للشرح، أخذ «تختخ» بندقية الصيد من يد «نبيل» واتجه فورًا إلى إحدى نوافذ الفيلا، وأطلق منها حربة الصيد القوية حطَّمت ثلاث قطع من خشب النافذة، ثم ضرب الزجاج بطرف البندقية، ومدَّ يده وفتح النافذة، وقفز إلى الداخل … أدار موتور الكهرباء؛ فشعَّ الضوء في المكان، ودخلت «لوزة» وخلفها «نبيل» الذي أسرع بتغيير ثيابه … كان يشعر أنه هو المُخطئ؛ فقد تسرَّع في البحث عن الكنز، وعَرَّض حياة «نوسة» و«محب» لخطر الموت … فمَن الذي يستطيع إنقاذهم الآن في هذه العاصفة الهوجاء؟ وفي هذا الوقت كان «تختخ» يبحث عن جهاز «الوكي توكي» في كل مكانٍ، ولم يكن موجودًا، فأين أخفته «نوسة»؟ وفجأة تذكَّر غياب «عاطف» المفاجئ، فهل أخذه «عاطف» معه؟

لم يكن هناك إلا هذا الاستنتاج؛ فقد أكدت «لوزة» أنها لم تر الجهاز في يد «نوسة» في أثناء ذهابهم إلى الشاطئ، ومعنى هذا أن الجهاز كان في الفيلا؛ فإما أنَّه سُرِقَ — وليس هناك دليلٌ على هذا — وإمَّا أنه مع «عاطف»، وهذا هو الأقرب إلى الصواب.

جلس الثلاثة صامتين، كان الموقف خطيرًا، ولا حديث يُمكن أن يحلَّ شيئًا، وغرق كل منهم في خواطره، ومضت ساعات والعاصفة ما تزال تُزمجر، وهم جالسون لا يفعلون شيئًا، لم يكن في إمكانهم عمل شيءٍ — أي شيءٍ — ونظر «تختخ» إلى ساعته، كانت قد تجاوزت الخامسة بعد الظهر، ومعنى هذا أنهم قضوا نحو سبع ساعاتٍ جالسين. وكانت «لوزة» قد نامت وهي جالسة في مكانها، وكان «نبيل» يتجوَّل في الفيلا، وكلَّما حاول فتح الباب دفعته الرياح المخيفة إلى الداخل، وفي وسط هذا اليأس المخيف سمع «تختخ» صوتًا لا يمكن أن يُخطئه … نعم … هذا صوت نباح «زنجر» يأتي من بعيدٍ.

وقفز «تختخ» من مكانه صائحًا: «زنجر»!

واستيقظت «لوزة» على الصوت، وأخذت تنظر حولها في ذهولٍ، وتذكَّرت كل شيءٍ، وهي ترى «تختخ» يجري إلى الباب، قالت: ماذا حدث؟

ردَّ «تختخ»: «زنجر» … إنَّه قريبٌ من الفيلا!

وأسرع الثلاثة إلى الباب … فتحوه، وقاوموا عنف الرياح الداخلة، وأخذوا يستمعون. كان نباح «زنجر» قريبًا منهم … ثم ظهر شبحه الأسود في مدخل الباب، واندفع داخلًا يُزمجِر … وأغلق «تختخ» الباب وهو يقول: «زنجر» … أين عاطف؟

أخذ «زنجر» ينبح في حزنٍ، و«تختخ» يُهدِّئه حتى استكان الكلب مكانه، وأسرع «تختخ» يحضر له طبقًا من الماء، أخذه يَلْعَقه مسرعًا … كان غايةً في العطش … ولم يكد ينتهي من الشرب، حتى اندفع إلى الباب … قال «تختخ»: انتظراني هنا، سأذهب وحدي معه.

خرج «تختخ» خلف «زنجر»، كانت الريح شديدةً حتى إنها طرحته أرضًا في لحظة خروجه، ولكنه تمالك نفسه، وانحنى، وأخذ يسير خلف «زنجر»، وكان المساء قد هبط، واشتدت الظلمة، حتى لم يعد هناك شيءٌ يمكن رؤيته على الإطلاق، ولم يكن أمام «تختخ» ما يُرشده لكي يتبع «زنجر» إلا صوت زمجرته؛ زمجرة الكلب الأسود الذي تحوَّل إلى كتلةٍ من الظلام في وسط الظلام.

كان «تختخ» يقوم ويقع وهو يتبع كلبه الأمين. كان هدفه أن يعرف أين «عاطف»، وأن يحصل على جهاز «الوكي توكي» لكي يتحدث إلى رجال خفر السواحل … إنهم الأمل الوحيد؛ لإنقاذ «نوسة» و«محب» إذا كانا مازالا على قيد الحياة.

ظلَّ «تختخ» يزحف، ويقوم ويقع خلف «زنجر» الذكي الذي كان يُحافظ على المسافة بينه وبين «تختخ» مُطْلِقًا زمجرته بين لحظةٍ وأخرى. وسارا نحو ساعةٍ لم يقطعا فيها أكثر من ثلاثة كيلومترات عندما توقفَت الزمجرة لحظات. وخُيِّل إلى «تختخ» أنَّه يسمع صوت أنينٍ صادرٍ من قريب.

أخذ «زنجر» يزمجر في مكانه حتى اقترب «تختخ» وسمع صوت «عاطف» يصيح: من أنت؟ هل أنت «تختخ»؟

ردَّ «تختخ»: نعم يا «عاطف»!

عاطف: لقد سقطتُ وأُصبتُ بالْتواءٍ شديدٍ في قدمي … إنني لا أستطيع الحركة!

تختخ: لا تخشَ شيئًا … ولكن أين جهاز «الوكي توكي» هل هو معك؟

عاطف: نعم … كان معي!

تختخ: ماذا تقصد ﺑ «كان» معي؟

عاطف: لقد سقط منِّي عندما وقعت، ولا أدري أين ذهب؟

اقترب «تختخ» من «عاطف»، وتشابكَت يداهما في سلامٍ حَارٍّ برغم الظروف، كان كل منهما سعيدًا أن وجد صديقه.

أخذ الاثنان يبحثان حولهما عن جهاز «الوكي توكي» كان «تختخ» يعتقد أنه المُنقِذ الوحيد لهم جميعًا في هذه اللحظة. وكأنما أحسَّ «زنجر» أن صديقيه يبحثان عن شيءٍ، فاشترك معهما في البحث. وكان أسرع منهما في العثور على الجهاز الصغير.

كانت فرحة «تختخ» بالعثور على الجهاز لا تُقَدَّر. وقرَّر أن يعود ﺑ «عاطف» أولًا إلى الفيلا لإسعافه، ثم يتصل برجال خفر السواحل، خاصة أن الجهاز الصغير كان قد امتلأ بالرمال وفي حاجةٍ إلى تنظيفٍ.

استند «عاطف» على كتف «تختخ» وأخذا يترنحان معًا في طريق العودة، ولو لم يكن «زنجر» معهما لما تمكنا من معرفة طريق الفيلا مُطلقًا … ولكن في وجود «زنجر» وبأنفه الحسَّاس استطاعا — في نحو ساعتين — أن يصلا إلى الفيلا في الظلام الحالك، وفي ظروف ثورة الطبيعة القاسية.

كان منظر «عاطف» مثيرًا للألم؛ فقد كانت الرمال تغطِّي جسده كله، وقد بَدَا عليه الإعياءُ، وصاحت «لوزة» عندما رأت شقيقها بهذه الحال، ولكن «تختخ» كان مشغولًا بتنظيف الجهاز الصغير الذي علَّق عليه كل آمالهم. وعندما انتهى من تنظيفه كان قلبه يَدُقُّ بعنفٍ؛ هل يتحدث الجهاز؟ وعندما أدار مفتاح التشغيل، وارتفع أزيز «الوكي توكي» رَقصَ قلبُه … وسرعان ما ضغط على جهاز الإرسال وهو يقول: خفر السواحل … خفر السواحل … نُريد الحديث إلى المُلازم «أحمد»! أدار مفتاح الاستماع … وكم كانت فرحته عندما سمع صوتًا خشنًا يُجيب: خفر السواحل تتحدَّث … مَن الذي يُريد الحديث مع الملازم «أحمد»؟

تختخ: إننا مجموعة من الأصدقاء نُقيم في فيلا صغيرة عند الكيلو ١٠١ من الشاطئ الشمالي الغربي … كان الملازم قد زارنا.

الصوت: الملازم «أحمد» يتحدَّث إليكم.

تختخ: إنني صديقٌ للفتاة الصغيرة التي قابلتَها في الفيلا … إننا مُعرَّضون لخطرٍ جسيمٍ، ونطلب مساعدتكم.

ولدهشة «تختخ» سمع الضابط «أحمد» يقول له: إنكم فعلًا معرَّضون لخطرٍ جسيمٍ، لقد رصدنا تحركات المهرِّبين، لقد انتهزوا فرصة العاصفة، واقتربوا من الكيلو ١٠١، وسوف يُنزلون سمومهم المهربة عند الشاطئ أمام الفيلا تمامًا … ومن المتوقَّع أن تحدث معركةٌ!

وبدلًا من فرحته صاح «تختخ» في الجهاز: إن لنا صديقين معرَّضين لخطر الموت، لقد ركبا قاربًا في الصباح وفاجأتهما العاصفةُ، وحتى الآن لم يعودا.

الضابط: لقد شاهدنا هذا القارب، وهناك رجلٌ عجوزٌ كان يعوم خلفه، وقد لحق بالقارب في الوقت المناسب قبل أن يَجرفه التيار إلى داخل البحر، واستطاع أن يَجْنَحَ به على الشاطئ …

صاح «تختخ»: عظيمٌ … عظيمٌ … «عم سالم» أنقذ «نوسة» و«محب». وسمع صوت الضابط يقول: ولكنهم اختفوا جميعًا بعد لحظاتٍ من وصولهم إلى الشاطئ، ولا ندري ماذا حدث لهم؟!

عاد قلبُ «تختخ» يَخْفِقُ بالألم وقال: لماذا لم تتدخَّلوا لإنقاذهم؟

الضابط: لم يكن هذا ممكنًا، وإلا كشفنا للمهربين عن مكاننا، ولكن لا تخافوا، إننا نعرف أين رَسَا القاربُ، وسوف نُساعدكم في العثور عليهما بعد الانتهاء من ضبط المهربين.

تختخ: شكرًا لكَ يا حَضْرة الضابط.

الضابط: ولكن لي عندكم خدمة … يجب أن تظلُّوا يقظين حتى قرب الفجر … إننا نتوقع من المهربين أن يبدءوا إنزال سمومهم قرب الفجر، ولا نريد الاقتراب من المكان حتى لا يتراجعوا، أرجو أن تراقبوهم من خلف زجاج النوافذ، أو من على سطح الفيلا، وعند ظهورهم حدِّثني في «الوكي توكي»، إننا لا نستطيع أن نراهم من مكاننا. إن هذه خدمةٌ عظيمة، وسوف نُساعدُكم في العثور على أصدقائكم الثلاثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤