النقد الأول
كان النشاط الأدبي أول حديث أصغيت إليه، فأعجبني إلقاء الأستاذ عباس خضر، باحث هذا الموضوع. الأستاذ خضر رجل جهوري الصوت، موهوب حنجرة فضية، فلم تفتني نبرة أو خفضة من كلامه.
أما في معالجة الموضوع، فلا يؤخذ عليه غير أنه طوّل حيث كان يجب أن يقصر، وقصر حيث كان عليه أن يطوِّل، قضى ثلثي وقته المقنن يناقش مقالتين، ولما جاء دور الكتب التي ظهرت حديثًا كانت زيارته لها لمامًا. والكتاب — في نظري — أحرى بطول الزيارة والإمتاع والمؤانسة من المقالة؛ لأنه أشد منها دلالة على النشاط الأدبي، وفيه مرعى تَدُرُّ عليه الأقلام، ومتى وُجد الماء بطل التيمم.
ثم تعرفت في ذلك النهار عينه بشخصية الأسبوع الدكتور نبيه فارس. كان الأستاذ بيبي يسأل والدكتور فارس يجيب، فرأيتني أعود عشرين عامًا وأكثر إلى الوراء، تذكرت أيام كان رشاد بيبي — ذلك التلميذ الطاهر — يلقي في بحر درسي شبكته الضيقة الثقوب، وإن كان يطرحها على دلفين … أجل تذكرت ما كان يسألنيه ذلك الفت، فعذرت الدكتور نبيه فارس.
ما قولك بمن تسأله ما هي الكرامة؟ حتى إذا أجاب بتمطٍّ، وفرغ منها وهو يلهث، تسأله وما هي الشجاعة، حقًّا إن نَصْبَكَ نفسك هدفًا لشجاعة أدبية أي شجاعة! ما خِلْتُ دكتورنا العلامة إلا مناضلًا على غير جبهته، وإلا فهو مرتجل، والجامعيون، وخصوصًا علماء التاريخ منهم، قلما قدروا على الارتجال؛ لأنهم يعتادون التمحيص والبحث العلمي …
وسمعت قصيدة للسيدة أديبة شكري، عنوانها: بريق الذهب، العنوان غرار، وهل في الدنيا شيء يغِرُّ أكثر من بريق الذهب؟! ولكن القصة ليست كاسمها فلا بريق ولا لمعان ولا بهرج. كان أولى أن تسمى حكاية؛ لأن للأقصوصة عناصر فنية لم تفز حكاية السيدة شكري بواحد منها، فأين السياق المشوق المغري، وأين الإنشاء الأنيق، وأين الحوار البارع، والتحليل في حكاية بريق الذهب؟! الشخوص لا سحنة لها ولا جبلة، ما عرفناها إلا بأسمائها؛ لأنها لا تحمل بطاقة هوية … أما الموضوع فأعتق من الخبز … كان على كاتبة قصة بريق الذهب أن تحسن ختامها على الأقل؛ فتقف عند قول أبي رباب لابن أخيه: إن رباب لك منذ اليوم. فسيان عند الفن أعادت لأبي رباب ثروته بعد حين أم لم تعد.
هذا من حيث الإنشاء والفن القصصي، أما القراءة فسقيمة؛ كان على السيدة شكري أن تُعنى بضبط ما كتبت قبل إلقائه، فلا تقول وِحدة — بكسر الواو، ولا عِقار — بكسر العين، ولا لم تفق — بضم الفاء، وهي تريد أفاق لا فاق. وقد قالت: الغير المتكافئ، وحقها أن تكون غير المتكافئ، كما وردت في الكتاب العزيز: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
ثم استمعت إلى حديث ندوة الشرق الأدنى التي دارت رحاها في العراق، فكان موضوع البحث: النقد العربي بين القديم والحديث، وكان المتناقشون ثلاثة: الدكتور مصطفى جواد، والأستاذان: عبد الرزاق محي الدين، وعبد الستار الحواري، فصبوا جام النقاش على رأس النقد القديم. نعوا على القدماء هذه الفقرة الحِكَمية: أنت أشعر العرب، ثم خلصوا إلى أن أساليب القدماء لا يجب أن تتبع كل الاتباع؛ لأن لكل أدب نقدًا.
تشكَّوا جميعًا من ميل النقاد مع الهوى، ثم أجمعوا أخيرًا على أنه لا بد للناقد من ثلاثة أشياء: إحاطة، وخبرة، وذوق. وتمنى أحدهم أن يكون الناقد من المنشئين ليقدر شقاء المؤلف وعناءه فلا يحاسبه على هفواته. ترى أيفوت الدكتور وصاحبيه أن النقد متى خلا من هذه الحاسبة لا يكون نقدًا؟ وهل فاتهم أيضًا أن من لا يكون كاتبًا أو شاعرًا لا يحسن نقد هاتين الصناعتين؟
وطال انتظاري رأيهم في النقد الحديث ولكني لم أظفر إلا بما قيل عن النقد القديم، وهكذا كان بحثهم فضفاضًا رجراجًا، غير مفصل على القد كأثواب اليوم، كما كنا ننتظر من ثلاثة أساتذة على رأسهم علامة تثقل كاهله ثلاثة ألقاب: دكتور، وعضو مجمعين: عراقي، وشامي.