النقد الثالث عشر
كان ركن الطلبة ركنًا أدبيًّا مكينًا، اختار له الأستاذ نهاد العمري طالبين جامعيين من تلاميذه في الدراسة الثانوية، وراح يسألهما عن تطور الشعر العربي، فأصابا حين رأيا أن للطبيعة والعلوم والترجمة يدًا في تطور الشعر العباسي، أما فيما عدا هذا فقد كان الطالبان برنامجيين، فما استشهدا به من شعر المتنبي وابن الرومي لم يكن غير ذلك الشعر الذي نقله مصنفو تاريخ الأدب العربي. إن هذه الكتب وطرق التعليم تجعل من الطلاب أبواقًا ينفخ فيها أساتذتهم ألحانهم المعهودة … فلو روى الطالبان شعرًا غير الذي يرويه المنهجيون من قول ابن الرومي لكانا قالا شيئًا جديدًا، فلو رويا — مثلًا — وصف بحيرة طبريا بدلًا من قصيدة المتنبي في وصف أسد بن عمار لكانا خرجا من منطقة أصحاب كتب المناهج، ولكن هذه الآفة ليست في كتبنا وحدنا، بل يجدها المطلع في جميع كتب المناهج العالمية.
زعم العمري في أثناء تحدثه مع تلميذيه أن الشاعر الأعرابي الذي شبه الأمير بالكلب في حفظ الوداد، وبالتيس في قراع الخطوب، هو الذي قال فيما بعد: «عيون المها بين الرصافة والجسر.» ترى ألم يقرأ الأستاذ مقدمة ديوان ابن الجهم القيمة للشاعر العلامة خليل مردم بك؛ ليعلم أن شاعر «الرصافية» نشأ في بيئة هي من الحضارة والعلم في الذروة.
وكانت الجلسة الشعرية عراقية، فقال أحدهم: التقيت بالأخان! وهذا غريب من شاعر يقدم للمستمعين، ولعل التصنع الذي استعمل في تقديم هذه الجلسة جر إلى مثل هذا، أما الشعراء فؤاد عباس ومحمود الحوت وخاشع الراوي فأسمعونا شعرًا فيه الغث والسمين، وكانت مختارات الأستاذ عبد القادر الكرمي فإذا هي متنوعة الأغراض، وأسلوب الشاعر جديد بمقدار، وفي برنامج المرأة يذكرنا شعر الآنسة فدوى طوقان بأخيها الشاعر طوقان الذي اخترم، ولم يتمتع بخاطره.
وإلى جانب الشعر يحق لنا أن نضع حديثين فصحيين، الأول: وضع في باب قصة الأسبوع، وما هو، قصة إن هو إلا قطعة شعرية رفيعة، وإن كان نثرًا، فقطعة الأستاذ إلياس خليل زخريا، وعنوانها: «يوم الجلجة» حافلة بتحليل عميق لنفسية المجدلية في تعبير شعري طريف عذب، ومع كل هذا لست أعدها قصة، بل نشيدًا، إنها قطعة رائعة، وإن قال فيها مثل: «يخرج الضمير من الضمير، ومريم المجدلية من مريم المجدلية، والشبح من الشبح.» سوف تأتي ساعة «يخرج» فيها إلياس زخريا من إلياس زخريا، وأتمنى أن تكون جد قريبة.
أما القطعة الثانية، فللآنسة سميرة عزام وهي في هذا الموضوع أيضًا، أحسنت بدأها وختامها، ولا أدري لماذا قالت الجلجثة! ترى ألموسيقاها الرخيمة، أم لسهولة النطق بها؟ وهناك حديث آخر قال صاحبه أو صاحبته ورجلًا بلباس أبيض «بتنوين أبيض»، وهي ممنوعة من الصرف.
وقد قدم الأستاذ موسى الدجاني الآنسة إكرام الحسيني، وطرق مواضيع دقيقة كالتعليم المختلط، فأحسن هو وأحسنت هي إذ لم تستحسن اختلاط الجنسين في المدرسة الثانوية، وإن لم ترفضه في الجامعة، أما الذي لم أستحسنه أنا فهو أن يقدم الأستاذ موسى الدجاني شخصيتين في يوم واحد.
أما ما أعجبني جدًّا في هذه الفترة، فحديث الآنسة رياض الجابري عن المرأة السورية في حقلها الاجتماعي، كان البحث مدروسًا، والإلقاء رائعًا شائقًا، قالت الآنسة باعتدال، ونعم ما قالت: التعديل ضروري بالنظر للمجتمع، ولكن ضمن دائرة مقبولة، فهي لا تجاري المرأة التي تغالي في المطالبة بحقوقها، كما أنها لا تقر من ينكرون عليها كل حق.
وأحسن ما سمعت في ندوة الشرق الأدنى في الأردن، قصيدة الشاعر حسني فريز في الابن، وإن حالت الآهات والقهقهات دون سماع الشعر أحيانًا.
وفي حديث «كتاب وقارئة» للأديبة السيدة سلمى صائغ سمعت الثناء يكال بالمد، ونحن في عصر «البوند والكيلو»، ولا عجب فالنساء والشعراء يحبون الثناء، ولا أقول يغرهن كما قال شوقي.