النقد الخامس عشر
جلسة ١٧ نوار الشعرية كانت حافلة بشعر زاهٍ كنور الرياض، عرض فيها الشيخ محمد الصافي النجفي قصيدة عنوانها: «الحرية الخالدة». في هذه الرائعة نفحة روحانية تنبعث من كتلة جسدانية، طبعت على الظرف والفكاهة، ذكرتني رحلة أشلائه بهزء المعري اللاذع، وسخره المضحك المبكي … حين تحدث عن مصير جسده، وصرخ تلك الصرخة المؤلمة: واهًا له يتغرب … وما كان الصافي في قصيدته الثانية أقل منه ظرفًا حين صحح خطأ تلك القبلة … جميل الاعتراف بالخطأ قولًا، فكيف به إذا كان تصحيحه فعلًا كما فعل صديقنا الصافي؟ صحة وعافية يا شيخ، ثن ولا تجعلنها بيضة الديك … وإذا كان الصافي عتاهيًّا فقد كان أبو ليلى بحتريًّا، فالأستاذ اللبابيدي أسد بلاغة له لبد أظفاره لم تقلم، متنبئ، بحتري في موسيقاه ومعانيه، فقصيدته «أعمدة بعلبك» دمقسية النسج، وقوافيها هدابة المفتل، وكم في القوافي من روعة متى أحكم بنيانها، وهكذا بدت أعمدة بعلبك كأنها ماثلة أمام أعين المستمعين قائلة لهم: ها أنا ذي إن كنتم لم تروني بعد، انظروني وأثنوا على الفن بآلائه.
وأما قصيدة الأستاذ نقولا بسترس، فمن لون آخر، هي نموذج طريف من الشعر الجديد الذي انبثق من لبنان، على يد نقولا بسترس واضع الحجر الأول في بنيان هذه المدرسة، ولكن الوظيفة — قاتلها الله — أخذت منه أكثر مما أخذت من اللبابيدي. جال بسترس في هذا الميدان يوم كان مجاورًا في هيكل ربة الشعر، وقال شعرًا مصفًّى من عيار ٢٤، فشق الطريق لشباب هذه المدرسة، وكأني به قد قال لهم حين اعتكف في مكتب وظيفته: انحوا هذا النحو، وظل يلتفت إلى الساحة من نافذته، وكأنه يقول: آه من قيود الوظيفة وأغلالها.
سمعت منه في هذه الجلسة قصيدة قالها في ولده، فإذا فيها من ورد نوار جماله ولونه وأريجه، وسمعت مقطوعة من غزله، فإذا هي أرق وأشهى من غزل البنات، شعر يطرب الآذان، ويبهج الطرف، ويغذي العقل.
قد يقول المستمع: أنى لك هذا المدح؟! أما أنا فأجيبه: هو من عند الحق، وما خلقنا للقدح وحده.
أما «روضة الشاعر» للأستاذ عبد القادر الصالح، فكانت أزهارها عتيقة، والتعابير رواسم قديمة العهد تقلل من شأن معانيه الجديدة. فما قولك بهذه القوافي الرخيصة: البدر المنير، ومنقطع النظير، وجه كالبدر يمحو الغسق، سحر عينيك، سبحان من خلق …
وإذا انتقلنا إلى القصة وجدنا قصة «نافخ الدواليب» للآنسة سميرة عزام جيدة، استعاضت الآنسة بالتحليل الموفق عن الحكاية وعقدتها، ولا بأس بذلك.
أحسن الأستاذ أحمد أبو سعد اختيار شخصيته الفذة، فالدكتور عارف العارف نابغة حقًّا، وحسب المستمع أن يقرأ كتابه «مرقص العميان» ليرى ما فتقت فيه عبقريته من دراسة عميقة لنفسية العميان، ولو لم ينصرف الدكتور إلى الحقوق لأدى للآداب حقوقًا كثيرة لا تزال مدفونة في زوايا ذمم عباقرة العميان.
لا أدري لماذا سحبت سبحتي عفوًا من جيبي، وأخذت أحصي كلمات «نعم» التي كان يهمهم بها الأستاذ موسى الدجاني، فقد أربت على حبات سبحتي وهي غير قليلة.
وأما الندوة الأخرى التي عقدت جلستها في بيروت لبحث التجدد، فما جددت شيئًا، وقد أغنانا الأستاذ بيبي بكلمة الختام عن كل ما أقول فيها، ولكنه كان محابيًا إذ قال: إننا كنا في هذه الجلسة بين التقليد والتجديد، أما الحقيقة فهي أنها تقليد وعتيق.
لقد أحسن الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل الكلام في ذكرى مصطفى صادق الرافعي، وتكلم بجرأة وإخلاص عظيمين، وبعبارة من طراز عبارة الرافعي، ولكنه أوغل في السماحة حين عد الرافعي شاعرًا ملهمًا، والرافعي في نثره أشعر منه في نظمه. نعم، كان الرافعي شاعرًا ثائرًا مهتاجًا، ولكن جواده كبا في ميدان التعبير شعرًا عن تلك الثورة الجموح.
وفي باب النشاط الأدبي، سرني الأستاذ سويد حين تحدث عن الأدب المتجهم الذي «يجعل العقدة بين عينيه، والبسمة وراء شفتيه»، لقد أحسن في نقداته، وما كل ناقد حجل، بيَّضتها يا سويد، فإلى الأمام.
وفي باب مقتطفات أدبية من برنامج المرأة سمعت كلامًا عن الطفل، وفحصه الطبي منذ ولادته، فهل هذا أدب؟ أم هو استعداد لتنشئة طفل قد يكون أديبًا؟