النقد الثلاثون
كانت الجلسة حول مائدة الفن، وكان المدعوون إليها ثلاثة: زينب محمد علي، والفنان الشهيد فروخ، والأستاذ رشيد وهبة، فأحلوا الفن محله الرفيع في الحياة، ودلوا على أثره العميق في تكوين الشخصية وتثقيفها وتهذيبها، وإشاعة المثل العليا في المجتمع، وانتهوا إلى أن الاتجاه الفني ما زال ينقصنا، إذا كانوا يقولون هذا اليوم، فما عسانا نقول نحن أبناء ذلك الزمان، يوم كانت تنقض صواعق غضب المعلم على رأس هذه الموهبة إذا رفعته، ابنك يضيع وقته في الخربشة، هكذا كان يجيب معلمي حين يسأل عني، وسبب ذلك أنني صورت وجهه مرة، فرعبه جماله اليوسفي، هاله منظر فمه المصرور كأنه كيس تكتة قصيرة، بشاعة عبقرية لا يصبر على رؤيتها إلا من اعتادها، ولعل محبتي المكبوتة لهذا الفن الرفيع هي التي حملتني على الإكثار من الرسوم والصور على حيطان بيتي.
وكان الأستاذ بيبي، كعادته، يكهرب الجو، فتدب الحياة في الجلسة كما تنفخها في الصورة ريشة الأستاذ فروخ.
ولا بأس علينا إذا انتقلنا من فروخ إلى فروخ، من مصطفى إلى الدكتور عمر، فها هي الأديبة السيدة وداد سكاكيني تتناول كتابه «الأسرة في الشرع الإسلامي»، فتكون مطالعتها غير مطالعات القارئات اللواتي كنا نسمعهن، فهي لا تلخص الكتاب فقط، ولكنها تناقشه مناقشة صارمة، فبعدها عرضته أوفى عرض أظهر لي أن هذا الكتاب كإخوته من قبل، راحت تعارضه في بعض شئون وشجون، إن كل ما لا يختلف فيه الناس يكون عاديًّا، والدكتور فروخ يتجاوز العادي دائمًا في كتبه، والسيدة سكاكيني لا يرضيها تلخيص بلا تعليق كما قالت، وهكذا وفت الكتاب حقه، وقالت: إنه كتاب المرأة والرجل معًا.
ذكرتني لهجة الأستاذ ميخائيل نعيمة في نصائحه إلى الأدباء الشباب برسالة عبد الحميد إلى الكتاب، وبنصائح أبي تمام لابن عمه البحتري، أعجبتني تشابيهه، وأخص منها تشبيه الأديب المقلد أو غير الخلاق — كما قال — بالإسفنجة التي تلتقط الماء لتعيده ماء، مفيدة هذه النصائح، وإذا كانت لا تخلق أديبًا فهي على الأقل تختصر الكثير من المسافات التي يقطعها إذا مشي بدون دليل خبير كأديبنا الكبير.
أما عرض مظاهر النشاط الأدبي فكان حسنًا، ولكن «أمواج» الكاتبة الشاعرة هند سلامة «ومع أيام» الشاعرة فدوى طوقان بعيدة العهد عن الشهر.
وفي ندوة «المرأة الحديثة في الميزان» كانت الجلسة رصينة جدًّا لم نسمع فيها حس ضحكة كما عودتنا الندوات الأخرى، قالت السيدة سعاد أبو شقرا: إنها لا تدري لماذا يهتم الأدباء كثيرًا بموضوع المرأة، فذكرتني بتلك التي قالت: أخي لا يحب إلا التحدث مع البنات، أما أنا فبالعكس، أما الفقرة الحكيمة التي أصدرها المحامي اللامع محسن سليم على المرأة الحديثة، فهي أن تظل امرأة بكل معنى الكلمة.
وإذا انتقلنا إلى روضة الشعر، رأيناها فواحة العبير بما أنشده فيها الشاعر الأستاذ صلاح الأسير، أنشدنا رائية رائعة من الشعر الأثيري الصافي الذي عودنا أن يكون فيه نسيج وحده.
ولكن كلمة العرار التي استدعتها قافية البيت فلا أرى مبررًا لوجودها في شعر صلاح الذي لا يعرف وجه العرار، ولا تمتع من شميعه … هذا قبل اتصاله بالسعودية … وفي «وراء الضباب»، تلك القصيدة العزيزة النظير في أدبنا الحديث، لا أرى موضعًا لوادي العقيق، وهو نهر شتوي يسيل مرة في العام كالنهر الذي يمر عند إقدام بيتنا، فأين شاعرنا من العاصي وبردي والليطاني، ونهر أبو علي؟
وفي باب قصة الأسبوع سمعت قصة مصرية للأستاذ إسماعيل جبروت عنوانها: «خطاب من نشال»، فوجدتها موعظة أكثر منها قصة، ولكن القصص أنواع فلا بأس إذا سميت قصة.
أما قصة الرسالة الممزقة، للأستاذ أحمد المكي، فهي من صميم الحياة اليومية، عبارتها قصصية، وحوارها قريب من الطبيعي، والتحليل فيها جيد، ولكن إدراك الختام إدراكًا تامًّا قد فاتني، وقد يكون كقول المتنبي: وآفته من السمع السقيم …