النقد الثاني والثلاثون
كان الميلاد والعام الجديد موضوعًا تبارت فيه أقلام الكتاب في سموات الإذاعات وميادين الصحف، فقد حمل الأثير إلى بيوت المستمعين تمنيات وأماني تدغدغ أحلامهم وهم يستريحون في هذه الواحة الخضراء من واحات العمر.
وها هو الكاتب الأديب الأستاذ إدوار حنين، وقلما سمعناه محدثًا، يحدثنا بأسلوبه الرصين حديث العام الجديد، فيوقظ فينا الأفكار الهاجعة، ويدعونا إلى اليقظة، فما كل ما يتمنى المرء يدركه.
والكاتبة المعروفة السيدة سلمى صائغ، تخرج قصة هي — في نظري — أجمل من المواعظ التي نسمعها في هذه المناسبات. نعم، إن هذه القصة «أُم في ليلة عيد الميلاد» لم تخل من الوعظ والإرشاد، ولكنها مع ذلك ظلت قصة، فاللون المحلي شائع فيها، والولد الطائش الذي ائتمنته أمه على فلس الأرملة راح يبدده في العيد ناسيًا أن أمه تنتظر، حتى صح فيه وفي والدته قول القائل: قلبي على ابني، وقلب ابني على الحجر.
وذكرني حديث المسرح بالبطل العالمي شرلوك هولمز الذي عرفناه في عهد الشباب من ترجمات الضياء الليازجي، وروايات طانيوس عبده. حقًّا إن الروايات الهولمزية تشغل العقل، وتحمل القارئ أو المشاهد على الانتظار، فيحبس أنفاسه إلى أن يفتح الله عليه، ولمؤلف شرلوك هولمز أقاصيص تنجح لو تبنتها محطة الشرق الأدنى وأخرجتها، إنها مسلية وغنية بالحوادث والعقد التي تحبب الرواية، وقد أصغيت في هذا المنهاج إلى قصتين: أولاهما: للدكتور سهيل إدريس، والثانية: للآنسة سميرة عزام. المدينة العظمى مؤثرة في نفس دكتورنا، وها هو يكتب لنا قصة مكانها في قلب باريس، وإطارها باريسي، وحادثها باريسي، وفلسفة حياتها باريسية، كما فهمنا عن بطلتها التشيكوسلوفاكية. الحياة في هذه القصة الإدريسية بوهيمية، يصف لنا فيها الفتك والطيش السائدين في مدينة النور … فقد أغرقت البطلة في اللهو والسكر والعربدة حتى سقطت تحت دواليب سيارة دهستها، فنقلت إلى المستشفى حيث أقبل زبائنها على عيادتها من كل فج عميق، وكلهم طلاب! ما أحسب هذه القصة الموفقة فنيًّا إلا صورة لحياة طلابنا عبر البحار، فكأنهم يحيون في باريس للمرأة والحب لا للكتاب، إن بطلة قصة إدريس واعظة مرشدة … والمثل يقولك: سل مجربًا، ولا تسل حكيمًا.
أما قصة الآنسة سميرة عزام، وعنوانها: «أخي»، فهي قصة جيدة، ومن صميم الحياة كما أرى، تزينها تعابير لطيفة، وفيها لباقة فائقة في التعبير عن أبشع الأشياء وأسمجها، لقد صورت بطلتها أدق تصوير كما رسمت ذاك الذي راودها عن نفسها حين كانت تعمل عنده. إن الآنسة عزام لا تعوِّل على الحادثة في أقاصيصها، وعلى هذا كتاب كثيرون من قصاصي اليوم. كثيرًا ما حالف التوفيق الآنسة عزام في هذا اللون الطريف من القصص، وأملي كبير بفلاحها فيه … ولا أنعى عليها إلا قولها: عيون خضراء. أفهم الوجه الأبيض كيف يكون، أما العيون الخضراء فلم أرها في حياتي حتى أحكم عليها، ولعل الآنسة سميرة عزام لم ترها مثلي وإن كانت ركبتها في وجه بطلة قصتها.
أما روضة الشاعر، فهبت علينا منها نفحات من قصيدة «البعث» للأستاذ إبراهيم محمد، و«الحصاد» للأستاذ نجا، فكانتا من الطراز الحديث الذي يؤثره شبابنا.
وتفردت المحطة، وعادتها دائمًا أن تكون سباقة، فأسمعتنا رضوان البلطجي وأخويه يصفون لنا معركتهم الخالدة مع البحر، تلك المعركة التي شرفت الاسم العربي في عواصم العالم، قدموا رضوان البلطجي في باب شخصية الأسبوع، وهو عندي وعند غيري شخصية العام، بل شخصية دهر، وحسبه أنه غلب البحر الذي لا يُغلب، أما انتزع البلطجيون من بين مخالب جبال أمواجه، وتلولها فرائس بريئة؟ فإلى الذين رفعوا اسم الشرق الأدنى عاليًا، أقدم أحر تهنئاتي بهذا الانتصار الخالد، لقد سماهم مقدمهم — الأستاذ أبو سعد — الفرسان الثلاثة، وليس هذا اللقب بكثير على من نازلوا البحر وغلبوه.