النقد السابع والثلاثون
«العلم التجريبي والأدب» موضوع جديد طريف، ناقشه الدكتور محمد كامل حسين وزملاؤه، محاولين تطبيق هذا العلم على الأدب كما حاول قبلهم سنت بيف، وبيرونتيير، وغيرهما من نقاد الفرنجة أن يصنفوا الأدباء كما صنف النبات، جالوا في بحثهم جولات موفقة، ولكنهم أخفقوا حين عدوا وصف الشاعر للغواصة والطائرة علمًا، فالشاعر يتناول من المشاهد ما يعني مخيلته لا ما يعني الحقائق العلمية، فالأدب يجف ويذهب رواؤه متى صار علمًا، كما أن العلم يفقد الكثير من حقيقته متى صار أدبًا.
إني أرى العلم ضروريًّا للأدب، فهو يساعده على خلق صور أدبية جديدة، وإذا جهل الأديب علوم عصره بدا كأنه واحد من رجال القرون الخالية، أما إذا عاش ذهنه في صميم العلم نصلت صبغته الأدبية، فأمسى لا هو في الشعراء ولا في الأدباء.
فالقصصيون الذين غرقوا في لجج علم النفس، وحاولوا تطبيق قصصهم عليه فقدوا الروعة التي هي عنصر الأدب، وملهم قراؤهم، مع أن علم النفس هو أقرب العلوم إلى الأدب، وقد عرفه كبار الشعراء والأدباء قبل أن يوضع، قبل أن كتبت فيه هذه الألوان من الكتب.
يقرأ العالم السيكولوجي هذا البيت:
فيحدثنا عن الفكرة الثابتة وغيرها، ويقرأ بيت المتنبي القائل:
فيأخذه حجة أيضًا، فمثل هذه الومضات العلمية التي تشع في سماء الأدب تنعش النفوس، أما متى صارت كما فعل بول بورجيه، فإنها تعري الأدب من جماله، ولا يبقى إلا الهيكل العظمى الكريه. الخلاصة، قليل من العلم يفيد، ولكنه لا يصح أن يغدو طريقًا معبدة تكر عليها عجلات الأدب وقاطراته …
ومن برنامج المرأة سمعت حديثًا شاملًا عن المرأة، وأثرها في أدبنا العربي الحديث للسيدة سميه حموي نجم، تحدثت حضرتها عن الكتَّاب الذين كان لهم يد في نهضة المرأة، ونسيت أباهم وجدهم أحمد فارس الشدياق، ذاك العبقري الذي وقف قلمه على المرأة، وطالب بحريتها كاملة منذ قرن، كان بحث السيدة سمية جامعًا شاملًا، ثم استطردت إلى وقتنا هذا فقالت: إن المرأة نالت بعض حقوقها في لبنان مع أنها نالتها كلها وفوق الكل إن كان هناك فوق، وأظنها سمعت — كما سمعت — الأستاذ بيبي يسأل عضوات بلدية بيروت إذا كن عازمات على خوض معركة الترشيح لعضوية المجلس النيابي.
وقد أحسن الأستاذ عادل الغضبان في حديثه عن الأفغاني والرصافي وناصف حين حصر الكلام في بعض جوانبهم؛ لأن ربع ساعة من الزمن لا يفي بتعريف من ملئوا دنياهم حقبة من الزمن، ولكن الأستاذ عرف كيف يستغله فعرض صورة صغيرة إلا أنها تدل على جميع الملامح، وإن كنت أوثر أن يكون الكلام عن واحد فقط من هؤلاء النوابغ.
وفي «روضة الشاعر» لم تكن قصيدة الأستاذ حسن القاياتي من الشعر العالي، إن مثل هذا القريض المنظوم أصبح غير مرغوب فيه، فأين الشعر في قوله، مثلًا: معاذ النبل أن نرضى … إذا أطمعت حلواها … مطيع فيما يعضاها؟
وإذا كانت قصيدة الرصافي «نحن والماضي» عباسية الديباجة لا يفارق فيها الشاعر عمود الشعر الذي كسره شباب اليوم، فللرصافي قصائد أجود منها، ولعلها اختيرت دون روائعه الأخرى؛ لأنها ذات مغزى اجتماعي نحن محتاجون إليه كل يوم.
أرى إقبال سيداتنا وأوانسنا على القصص أمسى كثيرًا جدًّا، مع أن الأقصوصة تقتضي كاتبتها جهدًا وفنًّا، وأنا لم أرَ في قصة «قسمة القدر» للسيدة مسرة شهاب شيئًا من هذا، كان الإنشاء مبتذلًا، واللحن منتشرًا، لا براعة سياق ولا جمال حوار، فنصيحتي للمهاجمين والمهاجمات أن يتمرنوا كثيرًا، ثم تطلق الأسهم بعد اشتداد السواعد فتحسن الرماية.
أما الدكتور عبد السلام العجلي فقصاص ماهر، عارف بأصول هذا الفن، وهو يطبق هذه الأصول على أقاصيصه فيوفق فيها، إن قصة «الخيل» جد موفقة، لقد كانت عقدة المودة بين الفرس والإنسان محكمة الربط، وكان الوصف وصف عارف خبير يصف ما رأى وعاش. ما زلنا نردد: «الخيل معقود بنواصيها الخير.» ولكن هذه الفرس الكريمة، رغم ما كان فيها من سمات تبشر بخير جزيل، لم يحالفها التوفيق، ولكنها لم تخسر الوفاء فماتت بموت من عرفت وعاشرت، أذكر أنني منذ أسابيع سمعت قصة بطلتها بقرة، والقصة مترجمة، فخلت تلك البقرة واحدًا من أفراد الأسرة، وها أنا اليوم أسمع قصة فرس العجيلي فلم أستغرب شيئًا مما حدث، فللإنسان صديقان من الحيوان قلما نجد محبتهما وتعلقهما في غير المخلصين من البشر.
وأما قصة المدير العام للأستاذ عزت السيد إبراهيم فظلت سائرة سيرًا حسنًا، حتى غالى كاتبها في نصفها الأخير، حين نقل حوادثها من الديوان إلى البيت، ففقدت الكثير من ذلك الجمال الذي أسبغه عليها أولًا.