النقد الثامن والأربعون
فالكاتبة السيدة أمينة السعيد كانت ترى العيد، ومن الجهة النفسية، كما رآه المتنبي يوم زار مصر تلك الزيارة المليئة بالخيبة، ولكنها روضت نفسها لتجعل يوم العيد يومًا نافعًا لا يوم مأكل وملبس.
وتحدَّث الأستاذ أحمد مكي عن ذكريات العيد في الغربة، فما ابتعد عن أبي الطيب، فكان رأيه فيه كرأيه، والفرق بين الشاعر والكاتب أن هذا كان في وسط تزيُّنه حمائم بيض، وذاك كان عند غراب يغرق في ليل حالك من النحوس.
وعقدت بمناسبة هذه الذكرى المباركة جلسة شعر عامية كان موضوعها الحج، فتساجل فيها الأساتذة صعب، والعريضي، والحداد، وآنسة أبدعت في القول لولا دنو زجلها من الفصحى. قال الجاحظ: النكتة البلدية تروى بلغة قائليها كما لا يحسن أن تروى نادرة الأعراب إلا فصيحة، وقد شعرت أن حبل وزن الزجل كان يضطرب في قافية المعنى عند الآنسة، كقولها مثلًا: وخلِّي السعادة بيننا تنمو وتزيد، وكذلك رأيت في «تطويبات» العريضي كقوله: طوبى للذي هلل وكبر، فهذه الطوبى محتاجة إلى الواو ليستقيم الوزن، فليته استعارها من الآنسة؛ فهي زائدة عندها.
وقال صاحبنا الشاعر أديب الحداد: وتلبس حلي من البرفير، مع أن لبس الحج أبيض، فلا برفير ولا أرجوان.
ومن روضة الشعر كان للعيد نصيب، فقال الأستاذ مصطفى محمود قصائد أو مقاطع كان بين بعضها والزجل بعض النسب، فالعرزال والوزال هذه من بضاعة شعراء العوام، وفي المقطوعة الأخيرة ذكرنا المنديل الأبيض الذي تغزل به الأستاذ محمود، بشال صاحبة الشاعر سعيد عقل … وأما شعر ندوة الشرق الأدنى التي عقدها الأستاذ بيبي في البصرة، فكان شعر شباب، والشباب يغني على ليلاه.
ومن البحرين ارتفع صوت كاتب أديب هو الأستاذ حسن جواد الجشي، فتحدث عن طرق الإصلاح، وطلب أدبًا نظيفًا بدلًا من الأدب الرخيص، وشكا من الأغاني المائعة، والأفلام التي تغري وتثير.
وتحدثت السيدة ناجية تاجر عن أوقات الفراغ، فرأت أن الراحة في تنويع العمل، وهذا صحيح، ولكن لكل واحد من المتعبين ضربًا من الراحة يلائمه، فالكاتب والمعلم والموظف، وكل من يعمل قاعدًا يوافقه عمل بدني في وقت الفراغ، والعكس بالعكس، وقد توجهت إلى السيدات تسألهن الاهتمام بشئون البيت بأنفسهن في وقت الفراغ؛ لأن الخادم لا تتقن العمل كالسيدة التي تعمل لنفسها، أما أنا فما رأيت بيتًا نظيفًا مرتبًا إلا وعلمت فيما بعد أن سيدته هي التي تراقب وتشرف على كل عامل وعاملة فيه.
وحدثنا الأستاذ عبد الوهاب حمودي عن الفكاهة في الشعر فأطال الكلام عن الضحك، ولكنه لم يضحكنا إلا قليًا، كنا ننتظر أن نتفكه فإذا بنا لا نسمع إلا نكتًا عتيقة كنكتة الجاحظ التي حورها الأستاذ، مع أن نكتة بشار التي رواها على حقها هي أمر منها.
ولست أدري لماذا عدت الأستاذة روز غريب الأدباء والشعراء خصوم المرأة، مع أنهم يتهافتون عليها تهافتًا غريبًا، حتى عجت كتبهم ودواوين شعرهم بادعاء محبتها، الآنسة غريب كاتبة أديبة، وحسبها كتابها النفيس: «الجمال الفني»، لم أرَ أولًا وثانيًا في حديثها ما يلائم ذلك الجمال الذي تحدثت عنه بذوق كلي. أظن أن هذا قد علق بقلمها من الأستاذية … وإذا وافقتها على احتجاجها على المعاهد التي تدفع أجرة المعلمة ثلاثين ليرة، فلست أوافقها على قولها إن «المرأة التي تأتمر بأمر زوجها في الانتخاب تمارس عبودية.» فطاعة المرأة ليست عبودية بل محبة.
ولقد أحسنت المحطة حين كلفت الأديبة نعمت أحمد فؤاد أن تتكلم بمناسبة ذكرى وفاة المازني، فتحدثت مجتهدة مخلصة عن هذا الكاتب العظيم، وتعمقت كثيرًا في بحثها حتى استحقت ثناء من أصغوا إلى حديثها، وقد رافقت الأستاذ فؤاد صروف في «رحلته في الفضاء»، فعدت منها عارفًا بأسرار كثيرة قديمة وحديثة.
ذكرني حديثه السهل الممتنع بأسلوب فلامريون الذي قرب علم الفلك من الأفهام، ولعل فؤاد في هذا الحديث وفي غيره هو أخبر كتابنا وعلمائنا بأدب الراديو.
أما شخصية الأسبوع، فقدمها اثنان على خلاف العادة، الأستاذ بيبي أولًا، ثم الأستاذ أبو سعد، ولا أقول شيئًا في الأستاذ إلياس شبل الخوري رئيس الجامعة الوطنية؛ لأنني رافقته ثلاثين عامًا غير منقطعة، إني أؤجل ما أقول إلى حين يظهر الجزء الأول من مذكراتي.
قصة الأسبوع، وعنوانها: «بدوية» للدكتورة بنت الشاطئ، تزعم الدكتورة أن الواقع فوق الفن، أما أنا فأرى أن الفن هو الذي يجمل الواقع، والكاتب الذي ينقل الواقع نقلًا كان كمن ينسخ صورة خالدة، فلولا العنصر الشعري، وتصوير شخص قصة بدوية لقلت إنها مبتذلة، وهي تحذو فيها حذو تيمور طه في ذهابها إلى الريف مفتشة عن قصة قد تجد أفضل منها في شوارع المدن. إن ختام القصة جميل، فهو أشبه بقطة القلم يوم كنا نبريه قصبا، أما «قصة ليتنا نستطيع» للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله، فعبارتها طلية وجيدة، ولكنه مع ذلك «لم يستطع» أن يخلق قصة.