النقد الخامس والخمسون
كانت أقاصيص هذين الأسبوعين ثلاثًا من طراز واحد تقريبًا، مؤلفوها يحلون محل أبطالها في الكلام، والأروع في القصص أن نعرف الناس بشخوص الأقصوصة، ثم ندعهم يتكلمون هم؛ لأن ذلك يدب الحياة في الأقصوصة فتنتعش، وينتعش قارئها أو سامعها، وقد سمعت أحد كتاب هذه الأقاصيص يردد اسم بطلة قصته «بركة» مرات عديدة لم أحاول إحصاءها؛ لأنها كثيرة جدًّا، فمثل هذا التكرار يفقد القصة متعتها، فخير للقصاص، بل أولى مهماته هي أن يتوارى خلف شخوصه، ويدعهم يعملون … وإلا فإنهم يكونون كتلك اللعب التي تتحرك متى جستها يدك، وتقف حركتها إذا كففت يدك عنها.
قال أحد كتاب هذه الأقاصيص: ذكرت هي الأخرى، والصواب أن نقول: ذكرت هي أيضًا؛ لأن الضمير لا ينعت ولا ينعت به. وهذا التعبير كثيرًا ما يستعمله أكابر الكتاب وهو غلط، فليتنا نقلع عنه.
وفي ركن «بيني وبينك» كان الدكتور حسين مؤنس محدثًا لبقًا، قال ما شاء دون أن تنقطع شعرة معاوية بينه وبين المرأة. لم يرجع بها القهقرى، ولكنه حثها على أخذ المفيد من حضارة الغرب، ولم يزعم كغيره أننا لم نفد منها شيئًا، وهكذا أثرت كلماته فيمن سمعته من السيدات اللواتي يؤثرن أن يكنَّ بين بين.
أحسست في مطلع حديث الدكتور أنه لا يكترث للأسلوب، وإذا بي أسمعه فيما بعد في أثناء كلامه عن إليوت يقول: إنه تفرد بأسلوبه، أنا أظن أن الجمال الفني هو في الأسلوب لا في الأفكار التي قلما نظفر منها بشيء جديد. وأخيرًا رجا الدكتور المتقدمين من الأدباء والشعراء أن يقرءوا إليوت لعله يجدد لهم شبابًا، وأنا أقول للدكتور: إن الشبان والشيب في هذا سواء، إنها طاقة يا دكتور، فقد تكون في بطارية خدمت طويلًا أقوى منها في واحدة خرجت حديثًا من المستودع … فليس — إذن — في الأدب شيب وشبان، القصة قصة موتور، أي دماغ وأعصاب، فقراءة شاعر أو أديب لا تفتِّي ولا تشيِّخ، ومن لا يصدقني فليجرب.
وكان الأستاذ يوسف داغر أحد شخوص الأسبوع قدمته الآنسة نور سلمان ليتحدث عن الكتاب، فأجاد الإحصاء كل الإجادة، وهو من الأخصائيين بهذا، ولعله خير من عندنا في فن تنظيم خزانات الكتب، ولكن الآنسة نور قد أحرجته حين سألته أسئلة أدبية محضة ليست من اختصاصه.
قال الأساتذة صروف وجبور وزيادة كلامًا له قيمته ووزنه في هذا الموضوع، ولكنهم لم يرونا الحقيقة عارية، وهذه هي: الدروس الثانوية لا يطلبها في الغرب إلا أكثر الذين يعجزون عن تحصيلها هنا، وكذلك الشهادات العليا، والألقاب العلمية الضخمة، إنني قليل الثقة بهذا الدرس وذاك التخصص. أعرف واحدًا يحمل لقب دكتور في لغة لا يحسنها إن لم أقل لا يفهمها، فأكثر طلابنا يعودون إلينا عارفين ما في البارات والكازينات وعلب الليل أكثر مما يعرفون عن الجامعات.
لا أدري لماذا أنا ضعيف الثقة بهذه الألقاب التي تستورد من الغرب وأميركا، لا أراها من المصنوعات المتينة المكفولة، لقد أمست بضاعة «بازارية»، ناهيك أن الكثيرين من طلابنا يرضون من الغنيمة بالإياب، إذا لم يوفقوا إلى من يمهد لهم السبيل إلى نيل شهادة لا تشهد إلا بحماقتهم.