النقد السادس والخمسون
يتشبث الكتَّاب، الناشئ منهم والمجتمع أشده، بأذيال كلمات معلومات يحشرونها في كلامهم؛ لتدل على عمق تفكير وغزارة علم، ثم يرددونها في كل مناسبة، وتعجب غيرهم فيتناتشونها مثلهم، فتارة تقعد مطمئنة، وأحيانًا تقعد حسيرة ملومة … وهذا ما أشار إليه س. إليوت في حديث «معنى الثقافة» للأستاذ عثمان نويه.
فهذه الكلمات الواسعة الفضفاضة إذا انسجمت مع أخوات لها في كلام بعضهم فلأنهم فاهمون ما تدل عليه، أما عند الآخرين فهي لا تدل على شيء؛ لأنهم يستعملونها، ولا يدرون ما تؤدي. لقد كان حديث الأستاذ نويه ممتعًا ومفيدًا، ولعله الدواء الشافي لأولئك الذين يريدون أن يكون لهم سمت المثقفين، وهم لا يعرفون من الثقافة إلا هذه اللفظات التي يتهافتون عليها لاستحسانهم لها.
يطيل الأستاذ وفيق العلايلي المقدمة حين يعرف المستمع بالشخصيات التي يقدمها، ولعل له عذره لأنه يقدم شخصيتين عظيمتين صاحبي دولة كالأستاذين سامي بك الصلح والدكتور عبد الله اليافي، وعلى كل حال لو أراد الأستاذ العلايلي لاستطاع أن يقول ما يريد في سياق الحديث مع من يتحدث إليه، ويستطلع آراءه، وهذا ما يتوق إليه الجمهور، فرأى هذين السياسيين الكبيرين في الشئون الطارئة، والمشاكل التي تحاول البلاد حلها، يعني المستمعين كثيرًا، ألسنا كلنا في الهم شرق، كما قال شوقي؟
فهذه الطائفية داؤنا الوبيل، وقد اتفق رجلا الدولة — الصلح واليافي — على أن ساعة الإجهاز عليها لم تأتِ بعد، يرى سامي بك إنها مرض يزول مع الزمن، ويرى الأستاذ اليافي أن الأفكار غير مهيأة لها الآن، وإني أرى أننا ما زلنا نتحدث عنها، ويثار الجدل حولها لا تستأصل جذورها، فترك البحث خير علاج للقضاء على ميكروبها، يصر الأستاذان أيضًا على تجهيز الشباب بالعلم الحديث ليكون عندنا رجال يقومون بأعباء الحكم. والخلاصة أن عنوان شخصية الأسبوع أضيق من أن يسع الصلح واليافي اللذين كان لهما أبعد الأثر في تطوراتنا. لقد أحسن العلايلي السؤال، ففاز بالجواب الذي ألقى نورًا ساطعًا على بعض النواحي من حياتنا الحاضرة.
وتحدث الدكتور جبرائيل جبور بمناسبة ذكرى وفاة الأمير شكيب أرسلان، فكان حديثه مبوبًا منظمًا، وصف تطور أسلوب الأمير شاعرًا وكاتبًا، وذكر أنواع أدبه، ومواضيع أبحاثه كلها، واكتشف رسائله التي قال إن أحدًا ممن تكلموا عنه لم يأتِ على ذكرها، جميل هذا الشمول، ولكن مهما قال الرجل: إن إنس لا إنس، فهو ولا بد ناسٍ. لقد نسي الدكتور الترجمة والتعريب، فالأمير عرب في فجر حياته الأدبية رواية آخر بني سراج، وفي كهولته، كتاب أناتول فرانس في مباذله، وفي هذا الأخير يظهر تطور عظيم جدًّا في أسلوب الأمير، وفيه تظهر ثروة لغوية قلما نجدها عند غيره.
أما أهم ما استرعى سمعي في حديث الدكتور جبور فهو قوله أخيرًا عن الأمير شكيب: إنه خير كاتب ظهر في زمننا قبل ظهور التخصص. لست أفهم كيف يكون التخصص في الكتابة! قد يصدق هذا بعض الشيء لو لم يعمم الدكتور، فأنا أرى أن الجامعات والتخصص الذي تعنى به يخلق علماء، ولا يخلق كتابًا وشعراء، وقد تخلق الجامعات باحثين، ولكنها لا تخلق كتابًا موهوبين، فالكتابة موهبة لا علم وتخصص، والأمير شكيب خلق شاعرًا كاتبًا … فمهما آمنا في التخصص، فإننا نظل نراه عاجزًا عن خلق كاتب عظيم؛ لأن الكاتب يكتب عفو الطبع، وإذا قيدناه بهذا الذي نسميه تخصصًا صار عالمًا كغيره.
درس الدكتور جبور فأحسن درس من تحدث عنه بمناسبة ذكراه، وبمثل هذه الأقوال يمجد الأديب، لا بسرد حياته، وإظهار إعجابنا به.
وأصغيت إلى حديث الكاتبة السيدة وداد سكاكيني في دراسات أدبية، وكم كنت أفضل أن يتناول قلمها الرشيق غير هذا الموضوع الذي عمَّ حتى خمَّ، إن هذا الكلام عن أدبنا لا يقدم ولا يؤخر، وأدبنا يظل كما هو إذا لم يحاول كل منا أن يضيف شيئًا إلى ثروته، فالسيدة سكاكيني تستطيع أن تكتب قصة وتجيد، أفما كان من الخير لها وللأدب أن تكتب قصة رائعة كالتي كتبتها، ونالت جائزة المكشوف منذ زمان؟
إنني أرى الأقاصيص في هذه الفترة قد اعتراها جمود، ونحن نريد أن نسمع منها جديدًا، فإلى الأقصوصة، غير مأمورة، يا سيدتي.
وفي «الندوة» كان الحديث عن شرعة حقوق الإنسان، ومنذ خلق هذا الإنسان وهو يشترع ويشترع، وما نراه أدرك حقًّا من حقوقه إلا بباعه وذراعه، فالشرائع لا تؤتي آكلها ما لم تتجسد عملًا، ولا يدرك الإنسان حقوقه إلا إذا ترك كل فرد الطمع بأكثر من حقه.
وكان الأستاذ رزوق فرح رزوق بلبلًا صادحًا في روضة الشعر، ناعم الديباجة، من طراز شعراء الساعة، تؤازر خياله عاطفة حارَّة، ففي قصيدة «لا تراني» خرجات لطيفة على نسق البناء الأندلسي. إن للإذاعة فضلًا جزيلًا في تعريفها الجمهور بمثل هذه النخبة من الجيل الجديد.
أما العلامة الحسين الحلي، فهو لا يفارق عمود الشعر في مواضيعه وأفكاره، خاطب طائرًا في إحدى قصائده فزودنا بالحكمة التي اعتاد القدماء أن يزودونا بها، وأحسن في الثانية مخاطبة شيخ المعرة وتحليل آرائه. وجملة القول في شاعرنا العلامة أنه متأثر بالحليِّ الأشهر ومن طرازه.