النقد التاسع والخمسون
كانت روضة الشعر عابقة بالطيوب قديمة وحديثة، عنبر العربية السعيدة ومسكها، وعطر باريس حفيدة بغداد، وحاملة لوائها في عصرنا الحاضر، فهذا بديع حقي، وأظنه دكتورًا من باريس، ينشدنا شعرًا من الطراز الجديد الذي تهافت على قوله شبابنا، وراحوا يلحمون ويسدون وينسجون ويدبجون، سمعت له أربع قصائد: نحت، وسيجارة، وليالي بغداد، واﻟ … وكلها من هذا الشعر الجديد المنمق الناعم، جل كلماته من تلك اللفظات المنتقاة التي تدور على ألسنة أقلام شعرائنا الشباب، وصوره ومجازاته من البضاعة عينها، فالأزميل تعب، والحجر انهد، والمرمر ذوى، وسكن من غلمة الطين الفكر، كما خشينا نحن أن يضمحل الفكر ويذوي الشعر إذا ظل هكذا، زهرًا بلا ثمر. القصيدة غنية بموسيقاها، وألفاظها المختارة كعنوانها منحوتة نحتًا، ولكن هذا النحت لا يقام منه تراث يبقى.
أنا أحب هذا الشعر الصافي، ولكن محبتي له تنتهي فور انتهاء إنشاده، لقد كادت أذني تلتقف كل حرف رغم أن من أنشد قصائد الدكتور حقي كان منتشيًا بها، فراح صوته يعلو ويسفل حتى نسي ضعف الموجة وليالي كانون العاصفة. حقه أن يثمل، فهذا الشعر الجديد تغويك موسيقاه وتغريك صوره، وإن لم يكن تحتها طائل، فأصحابها أتباع هذه المدرسة يقولون: إن فيها من الإيحاء ما لا يفهمه إلا الراسخون في العلم، والله أعلم …
هذه طيوب باريس، أما عنبر العربية السعيدة ومسكها فيفوحان من «معلقة» الأستاذ عبد الله شمس الدين، وعنوانها: «صلوات». من عادة الصلوات أن تكون مقاطع، أما صلوات السيد شمس الدين فذكرتني بنفس ابن الرومي الطويل، القصيدة رصينة العبارة، ولكنها أقل صورًا ناتئة كالتي رأيناها في شعر الدكتور بديع حقي، ولعل الصلاة التي تعني شمس الدين لا تستدعي المجاز والأناقة، كما أن حميا الشباب هي التي أوحت إلى حقي بتلك الزركشة، ولكل ثمرة إبان.
ومن روضة الشعر يجدر بنا الانتقال فورًا إلى الجلسة التي عقدها الأستاذ عزيز أباظة مع الأستاذين أحمد رامي وعبد المجيد الغزالي، تحدثوا عن الشاعر العظيم أحمد شوقي، فقال الشاعر رامي: إنه درة في تاج الشعر العربي، فجاء في بالي قول ابن الرومي في وحيد المغنية:
ولهذا كنت أنتظر من رامي غير هذا الوصف، والتعبير الذي أمسى لا يدل على شيء.
لقد أصابوا حين قالوا: إن شوقي ترك بعده فراغًا ضخمًا في الأدب العربي، ولكن ما شأن الحسد الذي تحدثوا عنه طويلًا؟ لقد أصابوا في الاعتراض على من نقد أبيات شوقي التي تصف هيكل أسوان، فهذه الأبيات لم يقل شاعر معاصر وغير معاصر أحسن منها وصفًا وتصويرًا وديباجة، شوقي استفاد وبز ثم لم يُبز حتى الآن، نهج نهج البارودي وصبري في تصفية الشعر ثم بزَّهما، أما الذين يمشون على أثره حتى الآن فلم يبزه أحد منهم.
كانت شخصية الأسبوع من أبرز شخصيات لبنان، الأستاذ عادل عسيران رئيس المجلس النيابي، قدمه الأستاذ أحمد أبو سعد تقديمًا طريفًا، وكانت سؤالاته عميقة الجذور، فانتزعت من الأستاذ عسيران المعروف بحريته وصلابته ما يجب أن يسمعه العربي الواعي وغير الواعي ليتشدد ويستيقظ. قال الأستاذ بتواضع عميق «نفسي التي اشتمت شيئًا من المعرفة.» ثم هدر فيما بعد ببلاغة وفصاحة، فكان أبلغ شخصية أسبوع لم تلحن قط.
قال عسيران: السياسة توجيه إلى الخير ونضال، لا خبث ورياء، ورأى أن النظام البرلماني هو النظام الأمثل إن كان وراءه شعب واعٍ، وسئل عن القضية العربية فدق ناقوس الخطر دقات عنيفة جدًّا: القضية العربية تمر اليوم في أسوأ أطوارها، تنازع على السيادة، أموال تنفق بجدوى وغير جدوى، والعرب ممعنون في الضلال.
إن الإخلاص أملى على حضرة الرئيس هذه الحقائق، فكان صريحًا جدًّا لم يحابِ ولم يوارب، وعلى الرائد أن يصدق أهله، والداء المكتوم عصي الشفاء.
وفي ركن الأحاديث كان حديث الأستاذ السيد محمد رضا الشبيبي دراسة علمية عميقة شاملة عرَّفتنا بمعجم النبات للإدريسي تعريفًا تامًّا، وكذلك الأستاذة زاهية أيوب التي تحدثت عن الفقيدة الكبيرة السيدة سلمى صائغ، فقد عرضت نماذج دلت على الكاتبة وروحها، لامت البلاد على تقصيرها تجاه الأدباء، وأنا أعتقد أن الشقاء من المهاميز التي لا بد منها ليسير الأديب في شوطه خببًا.
أما في الأقاصيص فأطالت الدكتورة بنت الشاطئ مقدمة أقصوصتها، ولعل هذا مرض الدكاترة … أما تسمية بطلة قصتها بالصابرة فأظنه غير طبيعي بالنسبة للمحيط الذي جعلتها تعيش فيه، وزعمت أنهم هم سموها هكذا، أما قصة «بنت الراعي» فهي من الأقاصيص القديمة، ومغزاها نبيل جدًّا، ونحن أحوج الناس إليه ليقبل شبابنا على الأعمال اليدوية التي يأنفون منها، وهم أحوج ما يكونون إليها.