النقد السادس
إن ناقد أحاديث الإذاعة كمن يقنص العصفور طائرًا، فإذا لم يكن رشيقًا ضاع التعب. أقول هذا بمناسبة إصغائي إلى برنامج المزارعين، بينما كنت أستمع إليه إذ دخل علي أحد آباء تلاميذي، فأومأت إليه بجمع يدي مستمهلًا، وداعيًا إلى الجلوس، فقعد وأصغى، ولما سلمنا قال لي: ونحن نخطر على بال الناس! أية محطة هذي؟
قلت: محطة الشرق الأدنى، فهز برأسه وهو يقول: هذا حديث ينفع البشر، حقيقة إنها محطة سهرانة، نشتري راديو إن شاء الله، أعجبت الرجل الأخبار والأسعار، ووصفات المكافحة والإرشادات الطبية، ولست أزيد على ما قال؛ لأن فيه الكفاية.
وإذا انتقلنا إلى أحاديث العام الجديد رأينا حديث السيدة متيل مغنم من الكلام الذي اعتدنا سماعه في مثل هذا الموقف، تمنيات وأمانٍ على كل لسان، نضع كل خطيئة تأخرنا في رقبة الاستعمار، وما أحسبه إلا موقظًا للشعوب الغافية.
أما حديث الأستاذ الشيخ إلياس زخريا فذكرني بالريحاني أسلوبًا وإلقاء، وسجعًا وتكرارًا: هي المهرب في المهرب … هي المطلب في المطلب، هي المصب في المصب، لازمة تعاد وأخيرًا صلاة، ما أحلى الصلاة إذا لم تكثر وتصبح موضوعًا مبتذلًا.
وهنا حديث العيد وعنوانه: «المحبة تستطيع» للسيدة أسمى طوبي، ولكنه لم يكن من بابة مواضيعها التي كنت أسمعها وأقرؤها، عظمت كثيرًا شأن تلك التفاحة لتجعل منها حكاية من طراز: اسق أخاك النمرى، ولكن شتان بين تفاحة يستغنى عنها، ونقطة ماء يهلك من لم يشربها، وقد هلك، ولكن للتفاحة ذكرى عند المرأة قد لا تطيب لنا نحن الرجال.
ومن الأحاديث الأدبية حديث الشعر في الأدب العربي المعاصر للدكتور سامي الدهان، كان أقرب إلى الفهرسة الشاملة منه إلى الدراسة، وقد استغربت قول الدكتور: المدرسة الشامية، إن صحت التسمية، وهذه التسمية قد صحت منذ ألف عام حين تحدث الثعالبي عن البحتري في يتيمة الدهر، ولعل التاريخ أعاد نفسه. أما المذيع بالنيابة، فكسر الشعر إذ حرك القوافي الساكنة في شعر المعلوف وأبو ريشة، فقال: في خفقانهِ، ومن دخانهِ، وهي من دخانهْ، وفي خفقانهْ.
وتحدث أيضًا الأستاذ عيسى الناعوري عن عناصر الجمال في شعر الشابي، فكانت الدلالة عليها مبهمة، والعبارة فضفاضة مثل قوله: أساليب بيانية جديدة، وعناصر جمال وحيوية. أما ما هي؟ وأين هي؟ وهذا ما ينتظره منه السامع، فبقي في خاطر الأستاذ.
وتحدث الأستاذ جبرائيل كاتول عن مستقبل العلم والثقافة، فأبدى آراء صائبة حول تنظيم مناهج المدارس، ورأى أن توجه المدارس الثانوية طلابها حسب مواهبهم، وأن يعدل عن المناهج النظرية إلى البرامج العملية فلا يرى شبابنا في العمل عارًا. لقد أصاب الأستاذ فتلك المناهج الأرستقراطية هي التي أوجدت العاطلين عن العمل؛ لأنهم كلهم يريدون أن يكونوا سادة يجلسون على كراسي، وأين نجد هذه الكراسي؟
مليح حديث «اختبري معلوماتك» للآنسة أولغا وهبي، وقد اختبرتها أنا معهن، وأشهد أني قصرت في الامتحان، كان في الحديث نكات ولكن الضحك لها كان أكثر مما تستحق، وقد قالت إحدى الممتحنات: النساء عمرهن طويل، وأنا أقول: وسنتحاسب بعد أن ينلن حقوقهن كاملة، ويصبحن غير خاليات من الهم.
أما الشعر في هذه الدورة، فكان جله عراقيًّا، للشيخ بهجت الأثري ولثلاثة آخرين، وجميعهم كانوا يجولون وسط المعمعة، وقد أنشد الأستاذ العوضي الوكيل شعرًا حسنًا، وما أخذت عليه فيه إلا قوله: يا من كمثل الصبح، فليته استغنى عنه.
لم تعجبني أقاصيص هذه الدورة، فقصة «مأزق» للسيد محمد العدنان ابتدأت ابتداء حسنًا، ولكن حشره الشعر فيها ذكرني بألف ليلة وليلة، كما أن ختامها كان مأزقًا حرجًا فلم يستطع كاتبها أن يخرج منه …
وكذلك قصة «الشقيقتان» للسيد يوسف يعقوب حداد، كان فيها تكلف كثير، ومحاولة تعسرت معها الولادة. إن الانتقام من طفل صغير بقتله حرقًا على تلك الصورة مستغرب جدًّا، أما القصص المترجمة فأرى أن يحسن انتقاؤها لتلذ الجماهير، فما كل قصة تستحق أن تترجم للإذاعات، فللإذاعات نوع خاص بها.
أما تعليقي على هامش ما سمعت فهذا هو: سمعت كثيرين يقولون: إلا إن وهي إلا أنَّ، وسمعت من قال: هما وحدُهما، ووحد تفتح دالها دائمًا إلا في قولنا: نسيج وَحْدِه، كما لا يقال: لوحدي أو لوحده، وأكثر المحدثين يقول الاستفادة الحقة، وكلمة الحق مصدر والمصدر لا يؤنث، وقيل: شتانِ وهي شتانَ بالفتح، وقيل: دكانه الكبيرة، والدكان مذكر.