النقد الحادي والستون
حدثنا الشاعر الأستاذ صفاء الحيدري عن المذاهب الأدبية الحديثة في العراق، فنعى إلينا الأدب العربي القديم الذي أعرض عنه شباب العراق، ولم يعد أحد منهم يقرؤه، مع أن المثل عندنا يقول: احفظ عتيقك جديدك لا يبقى لك، أنا لست من الذين يعرضون عن القديم كل الأعراض، ولا من الذين يتمسكون به بأيديهم وأرجلهم، ففي القديم جديد كما في الجديد قديم جدًّا … أما تحطيم الشباب العراقي لعمود الشعر، ذلك الصنم الذي نصبه القدماء في هيكل الأدب والفن، وقالوا للذرية: اسجدي له، فهذا عمل نشكر الشباب عليه؛ لأن هذا العمود هو الذي حنَّط أدبنا شعرًا ونثرًا.
كان حديث صفاء حديث صاحب البيت عما فيه، فجاء شاملًا وعميقًا، ولا عجب فصفاء شاعر متمرد ثائر في أسلوبه وتفكيره، وهو من أركان النهضة العراقية الميمونة، ولم آخذ عليه في هذا الحديث إلا قوله: إن الأدب تلقح بالمذاهب الحديثة بعد دخول الإنكليز العراق، والفرنسيين لبنان، فإذا كان يصح ذلك في العراق فهو لا يصح في لبنان الذي عرف تلك المذاهب منذ عهد بعيد جدًا. إن في العراق نهضة مباركة، فبارك الله فيها، وأطال عمرها، ولا بلاها بنكسة، فأخطر الداء نكس بعد إبلال كما قال البحتري.
وفي ندوة الشرق الأدنى كان عنوان الجلسة «حوار أبي العلاء» عقدها الدكتور محمد صلاح الدين، والأستاذان أحمد الغزالي وأحمد مخيمر، لقد تحاوروا هم ثلاثتهم ولم يَفُز المعري بغير العنوان، أما شاعريته التي امتدحوها فهي — كما أرى — في غير لزوم ما لا يلزم، وأما التناقض الذي يجده قارئو شعره، فهو في العرض لا في الجوهر، فأبو العلاء مؤمن بالله وحده، وبدون كلفة …
وحدثنا الأستاذ منير بشان الذي قدمه الأستاذ موسى الدجاني، عن تاريخ الصحافة في طرابلس الغرب، مبتدئًا بعصر المطبعة الحجري، وانتهى بعصرها الحديدي، فما ترك شاردة ولا واردة، ولم ينسَ وريقة ما، وكل ذلك بدقة تاريخية دلت على عنايته الفائقة.
وكذلك كان حديث الأستاذ جميل سعيد في حديثه عن التربية في الكتب القديمة عند العرب، إن التربية كعلم النفس لا جديد ولا قديم فيها، فهي تجارب وملاحظات، وما أكثر ما يلاحظ الناس أولادهم، وما أقل ما يلاحظون أنفسهم، والآنسة روز غريب كان لها حديثان؛ الأول: «تربية الفتاة العصرية وتوجيهها»، وقد أحسنت فيه وصف استقبال مولد البنت ومولد الصبي، ثم أخذت تصف العقد النفسية التي تولدها في نفس الفتاة هذه الفوارق، وأخيرًا عتبت على الناس كيف يقولون للشاب «فرحتك» على مسمع التي لا يقولون لها شيئًا، نحن نعلم أنهم لا يقولون لها ذلك تأدبًا وتلطفًا لا ازدراء كما يخيل إلى الآنسة روز، وفي موضوعها الثاني «مشكلة الزواج»، رأت الآنسة كما نرى نحن أن زواج الفتاة المثقفة مشكلة، وأنا أراها مشكلة المشاكل، وخصوصًا إذا كانت جميلة، ومن المطالبات بحقوق المرأة كاملة غير منقوصة.
رأت الآنسة أن الزواج الباكر قبلي، والزواج المتأخر حضري، وأنا أرى أن خيرهما ما كان بين بين، والفتاة المثقفة حقًّا لا يمكنها أن تتزوج اثنين في وقت واحد: كتبها وعائلتها، أما الجامعات فقلما تنتج زواجًا لا تنفصم عراه فيما بعد.
«أجل لقد جاء الربيع» هو عنوان قصة الأستاذ عز الدين المناقلي كان أولها أكثر أناقة من آخرها، فاللون المحلي ينعشها، والإطار يزينها، ومغزاها يصدق ما قاله أبو العلاء: هذا جناه أبي علي … وكم في رقبة الآباء والأمهات من جنايات إذا كانوا مثل بطلي رواية المناقلي.
وكانت روضة شعر محمد حسن إسماعيل زاهرة زاهية حتى سبح الزورق في البطاح … كما قال في قصيدته الأولى، أما قصيدته الأخيرة، وموضوعها الجمال فهي خالدة، اجتمعت فيها الصورة كاملة الملامح تزيدها الألوان جمالًا، وختامها الصوفي فيه روعة.
وحديث الدكتورة سانحة أمين زكي مفيد جدًّا، وما أحوج الآباء والأمهات إلى سماعه كي لا يتخاصموا أمام أولادهم، ولكن قراءة الدكتورة لحديثها كانت سقيمة جدًّا، تُرى بأي لغة أخذت لقبها الجامعي؟ قالت الدكتورة أول مرة: بأن أمُّه، وقالت مرة ثانية، بأن أمُّه جاهلةً أمية، وقالت: يومين هنا وثلاثًا هناك، وقالت أيضًا: أن يذكروا أحدهما الآخر.
حقًّا إن هذا غريب جدًّا، وإذا لم تصدق الدكتورة ما قلت، فالحديث مسجل، واستعادته ممكنة.