النقد الرابع والستون
إذا فات محطة الشرق الأدنى تكريم الأستاذ محمد كرد علي في حياته، فلم يفتها أن تكون السباقة إلى تكريم ذكرى وفاته الأولى.
منذ عامين فكرت المحطة بإقامة حفلة تكريمية كبرى في بيروت لهذا الفقيد العظيم، ولما عرضتُ عليه ذلك أجاب — رحمه الله: أجلوها إلى ما بعد الوفاة. وقضى الله أن يموت كرد علي صاحب «خطط الشام» ومجلة المقتبس، ورئيس المجمع العلمي العربي، وألا نسمع صوت نابس بعد وفاته إلا صوت الأستاذ روفائيل بطي الذي سألته المحطة أن يتحدث عن فقيد العروبة والشرق.
لقد وفاه الأستاذ بطي حقه، وإن لم يكن كله فجله، فالرجل كان صديق العلم والأدب حيث كان وإن اختص الشام بالحب الشديد فكتب خططها، كان الأستاذ الرئيس كرد علي ملء دنيا العرب، فلم يدع موضوعًا فيه فائدة لأمته إلا طرقه، ولكننا نحن الذين انتفعنا بآثاره لم نكرم ذكراه التكريم اللائق بعالم عامل، حرث حقل الثقافة، وقضى ويده على محراثه.
لم تَخُطَّ يد الفقيد حرفًا إلا لغاية قومية، عاش لأمته ومات في سبيلها شهيد يراعه، لم يبالِ بالضغط الشرياني؛ لأن دم العروبة يغلي في شرايينه، فمات تاركًا لنا ميراثًا خالدًا عشرات المجلدات، أجزل الله ثوابه، وأعاض القطر الشامي علَّامة عاملًا يسد مسده.
كان الأستاذ عبد الحليم عباس صريحًا جدًّا في حديثه «خبراء في السياسة»، فأبدى آراءه بوضوح لا مواربة فيه، وإن كانت السياسة تقتضي اللف والدوران، فهل يسمح لي الأستاذ عبد الحليم أن أقول إن حديثه «أعجبني» جدًّا؟ وليته يتحفنا دائمًا بمثله!
وعقد الأستاذ رشاد بيبي ندوة نسائية مع الآنسة رشيقة العمري ورفيقاتها، ودار الحديث حول فشل المرأة في دخول الندوة النيابية، ولعل هذا الفشل كان مقدرًا، فالجلسات عندنا حامية الوطيس بدون نساء، فكيف بها متى كانت للمرأة يد فيها؟
وفي العراق عقدت جلسة مختلطة من الآنسة عالية، والأستاذين أكرم شكري وعطا صبري، فعاد بنا البحث ستة آلاف سنة إلى الوراء ليرينا المدرسة الصومرية الفنية، ويربطها بالمدارس التي جاءت بعدها، وأخذت الكثير منها مع بعض تحوير، وهكذا عرف من يهمه الأمر، تاريخ الفن منذ كان حتى الساعة. حقًّا إن المشرق بأسره متحف فني يذكرنا بقول شوقي:
وأنشد السيد رشيد زيد الكيلاني قصيدة نونية طويلة النفس ضمنها حوادث حياته، فأنبأنا أن أباه مات، والأم كما نعلم حنون، فنشأ على هواه، وخسر كثيرًا من التربية التقليدية. وليس الشاعر الكيلاني هو أول شاعر عربي كان ضحية اليتم.
ذكر الأستاذ ابنه الذي فقده فقال في رثائه:
إنه رجاء يا أستاذ! ولولاه لا تعزية للسواد الأعظم من الناس، وقد أجاب على هذا كاتب إنكليزي حين عزوه بهذا الرجاء، فقال في معرض الكلام في قصته: إنه أحب جسد ابنه لا نفسه الخالدة، لم يضعف قصيدة الكيلاني طولها فبقيت متماسكة حتى النهاية، ولكنه أنث الفردوس لا أدري لماذا، مع أنه كان في الإمكان التذكير، فلو قال: وضمك فردوس بدلًا من «وضمتك فردوس» لجارى البلغاء، وظل بيته سليمًا معافى.
وأما قصائد الأستاذ محمد هارون الحلو فديباجة التي عنوانها «دمية» متماسكة، ولكن صورها عادية، وإن كان عنوانها دمية، أما وصف الوزة فحافل بالتخيل، جميل تشبيه الوزة العائمة بالزورق ولكن قوافي هذه القصيدة لم تكن كلها كما يجب أن تكون.
وحدثنا الأستاذ سعيد فهيم عما قامت وتقوم به الجامعة العربية من تعزيز للثقافة، ونحن نشكر لها سعيها، ولكن إذا ظللنا ولا منهج يوحدنا، وكل منا يغني على ليلاه فلا عزة للثقافة، فلنوحد المناهج العامة؛ ففي توحيدها عزتنا وكرامتنا.
وفي ركن الأدب أسمعنا الشاعر سعيد عقل أقصوصة عنوانها: «بنت الملك والشاعر»، حدثت تلك القصة في صور وفي سالف العصور، وسعيد مولع بهذه العاديات التي تنشر ميت الأمجاد لتبعث الهمة في الأحفاد، القصة طريفة قوية، ولكن بعد الشقة بينها وبين المستمعين يفقدها شيئًا من روعتها.