النقد الثامن والستون
كان لرمضان المبارك حظ وافر من المنهاج، فمن جلسات عقدتها ندوة الشرق الأدنى إلى أحاديث فيها العبرة والذكرى، وقد كان حديث الأستاذ محمد قدورة أنيق العبارة بليغها، فبرزت فيه الأفكار على عتقها وقدمها كأنها جديدة، ولهذا قيل: إن من البيان لسحرا.
أما الجلسة التي عقدها الدكتور محمد صلاح الدين والغزالي، فكان لابن الرومي الحظ الأوفر منها، كما في العام الفائت، فهذا الشاعر النهم الذي لا يصبر على الأكل لا يستغرب منه هجو شهر الله.
وهناك موسم آخر هو مؤتمر الدراسات العربية الذي كان حديث الشهر كله، فهذا الأستاذ خليل هنداوي يتحدث عنه وعن نشاط الفكر في شهر نوار، فيلمُّ بكل ما حدث في دمشق وحلب والقاهرة، ولم ينسَ حديث الدكتور طه حسين عن أدبنا القديم وإرادته جعل الأدب إنسانيًّا.
يا مصيبة الأدب! فكل واحد يريد أن يحوله في مجرى، مع أن الأدب لا يعرف القيود، وليس لنا أن نكلف الدكتور طه أن يقول ما نريد، بل من حقه هو وحده أن يقول ما يريد بشرط أن يخرج أدبًا يبقى، فالجاحظ حين تحدث عن الذبان والقاضي ابن سوار، وعبد الرحمن آكل الرءوس، وفلان صاحب العقار ونضاله مع المستأجرين، لم يفكر في الإنساني وغير الإنساني، وأدب نشيد الأناشيد، وهو حديث قلب خالد أين نضعه يا ترى؟
وفي جلسة ندوة الشرق الأدنى في بيروت تحدث الدكتور نقولا زيادة مع الأستاذين تيمور وجبور حول محاضرتيهما في مؤتمر الدراسات، فلفت نظري قول أحدهم: إن «في الصيف ضيعتِ اللبن» قصة عريس رُفض، مع إنها قصة زوج شيخ أبغضته زوجته فطلقها وتزوجت فتى جميل الوجه، وأجدبت السنة فبعثت المطلقة إلى زوجها الأول تطلب ناقة حلوبًا، فأجابها: في الصيف ضيعتِ اللبن؛ لأنها طلقته في ذاك الزمان.
وبعد، فالمثل لا يعد قصة، والقصص موجود عندنا، ولكن في زي غير أزياء اليوم، والأزياء تتبدل دائمًا، وقد يأتي زمن تعد فيه قصص اليوم كما تعد المقامات وقصص التوراة.
وتحدث الأستاذ نقولا شاهين عن القنبلة الهيدروجينية فكان حديثًا جامعًا للتاريخ، والتعريف بالطاقة والذرة والكهرب؛ فأفاد المستمع الذي بات ينتظر قنابل أقوى كما وعده الأستاذ.
وتحدث الأستاذ سعيد عقل في ركن الأدب فألم بفعل الخلق، والهو وما هو، ومثل المرآة، وخرجت أخيرًا من هذا الحديث، وأنا لا أدري إذا كان سعيد عقل يريد أن «يؤدب» الفلسفة أو يفلسف الأدب!
وتحدثت الشاعرة نازك الملائكة إلى الآنسة فوزية … التي قدمتها شخصية أسبوع، فقالت نازك إنها ساهمت في تجديد الشعر المعاصر، فإذا كان التفلت من قيود القافية والوزن تجديدًا في نظر بعضهم، فهو عندي رجوع إلى قديم لم يطل عمره، وأقول للشاعرة نازك التي استغنت عن عتيقها: إن جديدها لا يبقى لها، فهي شاعرة «عاشقة الليل» فحسب.
وقالت الآنسة لمحدثها: إنها تكتب القصيدة بجلسة ولا تنقحها، فليتها تنقح وتنقح ليبقى شعرها، فالفن عمل وجهد مستمران.
وفي حصاد الفكر العالمي تحدث الدكتور حكمت هاشم عن اللذة، وذكر أندره جيد، وقد عجبت كيف نسي أبو نواسنا مع أنهما صنوان، وفرسا رهان في هذا الميدان …
والأستاذ عصام حماد قال شعرًا كالرمزي، ولكنه لم يوفق كثيرًا إلى الألفاظ التي توحي.
أما قصة «زوجتي لورا» للدكتور علي سلمان، فتعبيرها عربي لا ينم عن ترجمة، بينما نرى حوادثها تشير إلى غير ذلك، أراد الدكتور أن يقول كل شيء فأساء إلى قصته، مع أن عمل القصصي هو أن يشذب الزوائد، ويعنى بتصوير المكان والشخصية، وهذا ما أقل منه الدكتور حتى إننا لم نعرف من لورا غير أسمها. وقصة «الصورة الضائعة» للدكتور … وصف لحالة شبابنا في باريس حيث تتكاثر الظباء على خراش … وإني لأعجب كيف يتعلم شبابنا في مدينة النور إذا كانت هذه حالهم. القصة حكاية حال، وما أكثر الحكايات التي هي من هذا الطراز.
وفي ركن «أزواج أمام الميكروفون» أقول للآنسة سميرة عزام: إنه إذا جاز لها أن تتحدث مع الآخرين باللغة العامية فلا يجوز لها ذلك مع الدكتور جبرائيل جبور رئيس دائرة العربية في الجامعة الأميركية، فآمل أن تراعي فيما بعد مطابقة مقتضى الحال.