النقد السبعون
مباركة كانت تلك الساعة التي دعا فيها فخامة الرئيس الدكتور شمعون، الأستاذ عبد الله المشنوق لمرافقته في تلك الرحلة السعيدة، فلولا تلك الدعوة لم نقرأ تلك الفصول الطريفة في بيروت المساء، ولم يكن هذا الحديث الممتع في محطة الشرق الأدنى التي لا تفوتها مناسبة. حدثنا الأستاذ عبد الله عن تلك الأم المنجبة، أم السبعة، وكلهم عظيم، كما قالت بنت الحوشب في بنيها، ثم صور لنا أميركا الجنوبية وعظمتها، وبروز الجالية اللبنانية فيها حتى لم نعد نستغرب قول الأستاذ: إنه لم يُحتفَ برئيس بلاد قط كما احْتُفِيَ بالدكتور كميل شمعون، فالمرء يعز بقومه، وجماعتنا هناك أعزة، كل ما أعلنه الأستاذ يفرح ويسر إلا نبأ تقهقر لساننا العربي هناك، والخوف من توقف العصبة الأندلسية كما توقفت من قبل مجلة الأندلس الجديدة.
وفي السودان عقدت جلسة أدبية أدارها الأستاذ مبارك إبراهيم، فكان فيها موجهًا بارعًا، له نقدات صارمة، فجاءت تلك الجلسة فريدة في اتجاهها الجديدة، الشعر الذي أنشد فيها كان ينظر إلى القديم تفكيرًا وتعبيرًا وصورة، ولكن العاطفة الحارة فيه أدبَّت إليه الحياة، أظن أن تلك التعابير العتيقة مثل: شالت نعامته، كما قال أحدهم، لا توحي إلينا اليوم شيئًا، وأحسب أن شاعر اليوم ينطق بها ولا يحسها، فهي لا تملأ الفراغ الذي سدته في الأمس البعيد.
قال أحد شعراء الجلسة بيتين رائعين في السواد، ولعل صباغه محكم لا ينصل، قال: إن سواده رمز حداده، فذكرني بمحمد إمام العبد الذي أجاب من لامه على تركه الزواج بقوله:
لقد كانت للسواد يد على خيال الشعراء منذ عصر عنترة حتى اليوم، كما كان البياض أيضًا خالقًا صورًا شعرية شتى، ومنها هذه الصورة:
والشعراء في كل واد يهيمون.
وتحدث الأستاذ ربحي كمال عن اللغة والأدب، فقال: إن الثروة اللغوية ضرورية للكاتب والشاعر، إن هذا صحيح ولكن نحن أشد حاجة إلى من يحسنون انتقاء تلك الألفاظ، ويحكمون القران بينها، حدثنا الجاحظ في بيانه وتبيينه أن العرب قالت بمن لا قران بين كلامه: كلامه كبعر الكبش.
إن الثروة اللغوية ضرورية، وإنما الشرط الأول في تلك الثروة هو أن تكون مما ينفق في سوق هذا العصر، كان أناتول فرانس في آخر عمره يطالع المعجم القديم، ويرى في الكلمات كائنات حية، ولكن بين هذه الكائنات ما يجوز لنا أن نبعثه حيًّا، ومنها ما يجب أن يظل مقبورًا، ليست الكلمات في التأليف إلا رفيقات سفر، وشرط المرافقة الموافقة.
وفي حديث الشهر روى الأستاذ أبو سعد ما قاله تيمور وغيره حول عمل الأديب أن رسم الخطط هين، أما العمل فصعب، ناهيك أن الأديب — شاعرًا كان أم ناثرًا — لا يرشد إلى ما يعمل.
والأستاذ محمد العثمان تحدث عن جو الأدب، وثار على تلك الألقاب الفارغة التي نتمنطق بها منذ سنين فنقول: أمير الشعراء، وشاعر الأقطار العربية، وشاعر النيل … إلخ.
نعم يا سيد عثمان، إنها أفرغ من الطبل، وها هي قد ماتت ولم يبق لأصحابها بعدها إلا ما لهم من الشعر الصافي، إن التاريخ هو ذلك القاضي القديم الذي لا تعرف محكمته المحاباة.
وحدثنا الدكتور محمد يحيي الهاشمي عن طفل نبغ في الرياضيات وهو في العاشرة من عمره، فكان لا يستعين بالورقة والقلم حين يحل عملًا، لم أستغرب ذلك لأني رأيت بعيني مثل هذا الفتى، كان عندنا ولد مات في الحرب الأولى جوعًا، وكان يسبق الرياضيين المستعينين بقراطيسهم وأقلامهم، فكم من نوابغ عندنا كان حظهم رعاية البقر، ثم ماتوا وما عرف أحد ما مات معهم من عبقرية.
ليس «سر العصفورة المنتحرة» للأستاذ سعيد عقل إلا قصة، أقول هذا لأن قارئ منهاج المحطة كان ينتظر أن يسمع في ركن الأدب حديثًا عنه من أحد أركانه، إنها لقصة فنية جميلة جاء جمالها في تلك الحالة الأرجوانية التي كساها إياها سعيد، وإن كان لم يعجبني منه وهو يكتب قصة أن يقول: إن زوجه ماتت، أليس على سعيد — وهو من دعاة العامية عندنا — ألا ينفر من فصيح العوَّام ويقول زوجته؟
وقال الأستاذ رشيد زيد الكيلاني شعرًا في الغزل والحكمة، ولعل قصيدة «العصافير» أجود ما أنشدنا، كما أن هذا البيت الذي علق بذاكرتي هو أجود بضاعته الغزلية:
الصبر مفتاح الفرج يا سيدي، وعسر النساء إلى مياسرة كما قال بشار، الخبير الفني.
كانت قصة «مالك الحزين» خير أقاصيص هذه الفترة، كتبها الأستاذ أحمد سويد في أسلوب طريف، التصوير بارع تام، ولكن في الأستاذ رغبة ملحة في جمع المقابح ليدمغ بها أبطاله أشد من رغبة هواة طوابع البريد، وهو أيضًا يتكلم دائمًا عن بطله، ولا يترك له مجالًا ليعبر عن نفسه، ولعل هذا من خصال المحامين …
إني أتمنى على المحامي أحمد سويد أن يستوحي عمله، فكم في المحاكم من قصص تعرض كل يوم، وفيها لأصحاب الأقلام مرعى خصيب، ونحن إلى هذا اللون القصصي مفتقرون.