النقد الحادي والسبعون
أنشد الأستاذ فؤاد عباس في روضة الشعر مطولة رائية جيدة، أنعشها تنوع مساقها، والتفاتات تسترعي انتباه المجتمع، ثم تلتها لامية في البحر عينه، ولكنها دون الأولى جودة.
أما الأستاذ عبد النبي عبد القادر مجداوي فجمع في قصيدته التائية قوافي لا تلاؤم بينها كقوله: أناتها، وضيعتها، وحياتها، وطلقتها، وحطمتها، وهذا من عيوب القوافي، فالشاعر الذي يؤسس قصيدته على الألف لا بد له من التزامها في القصيدة كلها، وهذا العيب يسمى سناد التأسيس، فشوقي على رغم إبداعه ووثباته إلى أعلى ذرى الفن في تائيته «لبنان» لم يغتفروا له سناد الردف حين جمع بين قوته وملكوته، وقنصته وزخمته.
وتحدثت السيدة صفية فراج عن المرأة المقلدة، وحسنًا صنعت؛ لأن التقليد آفتنا، وقد كرهه العرب فضربوا المثل بالغراب والقطا، فقال شاعرهم في ذلك:
نعم، لقد أفقدنا التقليد لوننا فصرنا لا غربيين ولا شرقيين.
وفي ركن الأدب تحدث المحامي فؤاد طرزي عن المذاهب الأدبية في الأدب الغربي، فلحن كثيرًا حتى خلت أن العجمة قد سرت إليه من موضوعه، ومما أذكره من لحنه جره كلمة أقاح بالفتح، فكأنه حسبها ممنوعة من الصرف؛ لأنها من صيغ منتهى الجموع، وهي ليست منها، أما البحث فليس فيه إلا ما يعرفه كل متأدب.
والأستاذ حسني فريز ارتفع في مطلع حديثه عن «المتاعب» إلى ذروة عالية من البيان، ولكنه مشى على الطريق المعبدة حين تبسط، وقد أحسن حين قال: «إن القوى العادية لا تستطيع أن تأمر الجفن بالمنام، ولا القلب بالهيام، ولذلك تظل القوى الروحية هي السائدة.»
لا أدري إذا كان هذا من كلام الشعراء لا العلماء، فأنا غير متضلع من هذا الموضوع لأشايع الأستاذ حسني على تعظيم شأن القوى الروحية، والشعور بتأثيرها الغريب في مجاري حياتنا.
ولخصت السيدة أسمى طوبي كتاب «نساء صغيرات» فأحسنت عرضه على الناس، وإن كان مثل هذا التلخيص يعرفنا بالفكرة لا الفن، فكم من فكرة يبدو جمالها حين يحسن عرضها على الناس، فتلخيص الأثر الفني — وخصوصًا ما اعتمد منه على الأسلوب — يشوِّه ذاك الأثر، ويعفي معالم حسنه، وإذا كانت روائع الروايات الملخصة في كتاب تفقد الكثير من ملامحها الفنية، فكيف بكتاب يلخص في ثلاث صفحات أو أقل؟ ليس هذا النقد موجهًا إلى السيدة طوبي التي قامت بعملها على وجهه الأتم، ولكنه كلام موجه إلى السامع لئلا يكتفي بهذا الصندويش الذي لا تستطيع المحطة أن تقدم أكثر منه.
وتكلم الأستاذ محمد أحمد الحناوي في ذكرى الإمام محمد عبده وتلميذه المنفلوطي، فبذل جهدًا موفقًا في التعريف بهذين الجهبذين حتى جاء إيجازه غير مخل، وكان شيخنا الأستاذ عبد الله العلايلي شخصية أسبوع بمناسبة صدور كتابه المعجم، فأفاض الأستاذ العلامة في التعريف بكتابه الفريد، وجلا بعض ما غمض على الأدباء من دقائق هذا الكتاب الفذ، وكما قدم الأستاذ أسامة عانوتي الشيخ عبد الله، كذلك شارك الأستاذين محمود تيمور وعبد الله المشنوق في طوافهما حول الأقصوصة، قال الأستاذ مشنوق: إنه لم يكتب القصة، وقد نسي أنه يكتب قصتنا، يوميًّا في بيروت المساء، وبأروع أسلوب قصصي، ناهيك أن الأستاذ عبد الله عينه هو أروع قصة حية، قال الأستاذ عبد الله، أو غيره: إن محمود تيمور هو رائد القصة الأول، مع أن جبران كان أسبق إليها منه، ومن أخيه محمد أيضًا.
لم أتعجب من تعجب تيمور حين سمع الأستاذ المشنوق يطري مضيرية بديع الزمان، فقد رأيت من تيمور ما هو أدهش، سمعته يحشر أحمد فارس مع ناصيف اليازجي ويعده من كتاب المقامات.
وفي عرض الحديث قال تيمور: إن قصتنا تأثرت أولًا بالأدب الغربي ثم استقلت، فهل نسي أن الأدب الروسي تأثر أولًا بالأدب الفرنسي، وإن كبار قصاصي الروس كانوا مقلدين لأولئك؟ إن الأديب يولد أديبًا؛ ولكن المطالعة تجلو عرقه الأصيل، وتوقظ ما كمن في ذاته من أسرار فنية، فلا نتعب أنفسنا في السؤال كيف نكتب القصة.
وفي قصة «في السينما» أكثر الأستاذ محمد روحي فيصل من القول: «كما ستعلم في نهاية القصة.» مع أن القصصي لا يشير كالمؤرخ إلى مثل هذا، إنه يقص فقط، وليس عليه أن يدل أحدًا على شيء.
وقصة الأستاذ إسماعيل الحبروك لا يشينها غير اللحن في قراءتها، فحبكتها وسياقها، وتطور الموقف جيدة كلها.
قالت امرأة بطل القصة: إنها تقتل من يخون زوجته إذا رأته متلبسًا بالجريمة، وحين رأت زوجها كالمتلبس بالجريمة لم تفعل شيئًا، حسن جدًّا أن نجنح بالأبطال عن الطريق المرسوم إلى حيث لا يظن المستمع، وأحسن منه أن نصور العراك النفسي كما رأيناه في ختام قصة الحبروك.
وفي سلسلة «المرأة في حياتهم» روى الأستاذ أنور أحمد عن إبراهيم لنكولن أنه قال لمهنئيه: هنئوا أمي.
وإني أقترح على الأستاذ أنور أن يتحدث عن المسيئات أيضًا، ثم لا ينسى أن يقف على رأي لنكولن في زوجته التي رشقته بكوب الشاي المغلي …