النقد الثاني والسبعون
الشعر والقصة هما شغل الأدباء الشاغل، سهل جدًّا على الأديب والمتأدب أن يعالج بحث المقاييس، ولكن العمل صعب، ولذلك قال المثل: الحرب في النظارات هينة، إننا محتاجون إلى من يعمل، لا إلى من يرشد الشاعر والقصصي إلى ما يعمل، فلو حاول أعظم مهندس أن يبني مدماكًا واحدًا في قصر وضع هو تصميمه الرائع لبدا له ضعفه تجاه ذلك البنَّاء الأمي، فإذا أردنا أن يكون لنا قصص رائع وشعر رفيع، فلنحاول النظم والكتابة غير مبالين بما يرسمه لنا هذا وذاك من خطوط، فالفن يولد ثم يقاس عليه.
أقول هذا بمناسبة جلسة عقدت برئاسة الدكتور ضيف، وبحثوا فيها موضوع تحديد الشعر. سمعتهم يتحدثون عن الأوزان، ويقيمون لها وزنًا كبيرًا، حتى ذكروا أن الأستاذ رئيف خوري نظم قصيدة على عدة أوزان، وأنا أذكر منذ نصف قرن تقريبًا أن شيخ العربية المعلم عبد الله البستاني عمل مثل هذا الكوكتيل في رثاء الشيخ إبراهيم اليازجي.
وبعد فلست أرى في الأوزان معضلة شعرنا الكبرى، ولا يكون تجديد الشعر في التمرد على أوزانه، أو خلق أوزان جديدة، فالخليل هو أبو الوزن وليس لشعره أقل وزن … وقد أدركت العرب هذا فميزت شعر العلماء من سواه. الوزن له شأن كبير، خصوصًا في الشعر العربي، ولكن تعبئة تلك الأوزان هي أهم جدًّا، فليس الشعر في موضوعه ولا في وزنه ولا في تحليل التجربة، ولكنه في تزاوج الألفاظ، وفي الفكرة التي يبرزها الشاعر في أجمل حلة، وليست القافية هي العقبة في سبيل إبداع شعر صافٍ، فحيث يكون الطبع الصحيح أو القريحة، كما كانوا يقولون، لا تحس أن هناك قافية، فالشاعر غير المعلم المعماري الذي يضع الزاوية أولًا ويبني عليها مدماكه، فإذا شئنا أن نقول شعرًا جديدًا، علينا أن نفكر بغير عقلية أسلافنا.
أما موضوع القصة، فعالجه الأستاذ عز الدين المناقلي تحت عنوان «القصة الحية»، فحسب حساب العين النفاذة التي تلتقط ما حولها، والقلب الذكي، واللغة، والعرض، والتحليل، وأخيرًا العقدة، نظريات جيدة، ولكنها لا تنفع إلا قليلًا حين يبدأ العمل الفني. القصصي كالشاعر يولد موهوبًا، وكثرة السنين لا تخلق قصصيًّا، فرب إنسان كتب القصة طوال عمره ولم يلمع نجمه، ورب آخر كتب قصته الأولى فطارت شهرته، وهناك قصصيون مشاهير لم يأبه لهم أحد في أول الشوط، ولكنهم ما انفكوا يعملون حتى استولوا على الأمد بعد حين، فلنجرب فالأدب لا ضوابط له.
ولا داعي لرقي البيئة حتى ترتقي القصة، فقد تكون قصة رجل ساذج يحسن القصصي تصويره خيرًا من قصة فيلسوف لم يتحرك تحت ريشة صانعه، فلا أهمية للموضوع، الأهمية الكبرى لإخراجه في صورة فنية، فعرض الحقائق كما هي في الواقع ليست فنًّا، والقصة ليست عظة، ولكنها تتضمن المواعظ، إذا شئنا، دون الإشارة إلى أننا نعظ. أما القصصي الذي لا ينقصه إلا «أما بعد» فهو يسقط من عين الفن.
والعقدة التي أشار إليها الأستاذ المناقلي أين هي اليوم في القصص التي تعرض وتذاع؟ صارت القصة مقالة، أو كالمقالة؛ لأن كتابها لا يخلقون فيها قصة.
وسمعت ما دار في جلسة حول الأدب في السودان، استطردوا فيها إلى الأدب القومي السوداني الذي رووا نتفًا منه، كم كنت أتمنى لو كان ينصت معي واحد من دعاة اللغة العامية ليقول لي ماذا فهم؟ وما هو رأيه في الموضوع؟ إني أقسم بالله أنهم لو لم يفسروا تلك المقطوعة العامية السودانية لما فهمت منها كلمة.
وتحدث الأستاذ محمد مصطفى حمام عن الفكاهة في الأدب المصري، فكان فكهًا لذيذًا طريفًا، أدخل الأستاذ حمام شيئًا جديدًا على الحديث فأحياه، غنى بصوته الحلو أنشودة وزير الأوقاف الذي أخَّر العطاء، الفكاهة من طبع المصريين، وإذا لم تشع في أدبهم وشعرهم فلتزمت الشعراء وتوقرهم، وعدم الهزل ساقطًا عن رتبة الشعر.
إنا لموعد حديث الأستاذ حمام عن دعابات شوقي لمنتظرون، شرط أن يخرج الحديث مرة أخرى عن طريقه المعبدة.
والأستاذ إبراهيم الوائلي ذكرنا روعة إنشاد الشعر في قصيدته «الملاح»، ولا غبار على ما أنشد من شعر إلا جمعه بين مني وإني وعيني في قافية واحدة.
وتحدث الأستاذ سعيد عقل عن دواوين الشاعر هيكتور خلاط الأربعة، فأحرق كل بخور لبنان أمام شاعره. فليت سعيدًا ترجم للمستمع شيئًا من شعر خلاط، ولم يكتفِ بكلامه هو عن الشاعر، فبعد ذاك التعريف الطويل العريض أمسى المستمع متشوقًا إلى سماع شيء من شعر هذا الشاعر الفذ.
لا أدري إذا كانت قصة الأستاذ خليل هنداوي مترجمة أو موضوعة فقد قيل لنا إنها قصة يونانية، وعلى كل كان في القصة صراع مبادئ بين أبقراط وزوجته، الزوجة تهجس بمال الملك، وبقراط، أبو الطب، ينشد المثل الأعلى ويزدري المال.
وقصة «عودة القطيع» — أي العمال — للآنسة أمينة قطب مؤثرة لما فيها من وصف رائع لحالة أولئك البؤساء المساكين، ثم نكبتهم أخيرًا بتدهور القطار وموت بعضهم.
أما قصة الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله، فحياة بطلها المدير أقرب إلى المعجزة منها إلى ما يمكن حدوثه، ومع ذلك نقول إن غرائب الحياة كثيرة، وليس فيها مستحيل.
وقيل ما هي إلا طرقًا، وما يبطل عملها متى اقترن خبرها بإلا.