النقد الرابع والسبعون
الأستاذ سلامة موسى — كما عرفناه — كاتب حر مستقل التفكير، تحدث عن ابن خلدون فما عناه ما قاله غيره فيه، بل مضى يشرح مقدمته الشهيرة، ويرى في مؤلفها شخصًا تنقص من قدر العرب؛ لأنه يكرههم.
قال الأستاذ سلامة عن ابن خلدون: إنه عرف الأعراب ولم يعرف العرب، واتهمه بسرقة ما كتبه إخوان الصفاء، ثم راح يدافع عن الحضارة العربية وعلوم العرب، التي كانت السبب في اهتداء كولومب إلى اكتشاف أميركا. وأخيرًا ترك ابن خلدون وتغلغل في نظرياته هو الاجتماعية، فأصاب في آراء واستنتاجات شتى، لم يكن ينقص هذا البحث إلا تأييد مزاعم الأستاذ بشيء ولو قليلًا جدًّا، من أقوال ابن خلدون التي حمل فيها على العرب، وما أكثرها في المقدمة الخلدونية الشهيرة، قد يكون عذر الأستاذ سلامة ضيق المجال، ولكنه كان في وسعه أن يستغني عن بعض ما قال.
وكانت الكلمة في ذكرى الكاتب العظيم الأستاذ المازني لولده محمد، ومن أدرى بالأب من ابنه؟ كشف لنا هذا الابن البار دقائق شتى في حياة أبيه، وكم كنت أتمنى أن أسمع هذا الحديث قبل طبع فصل المازني في كتابي جدد وقدماء الذي يظهر قريبًا.
كان محمد عبد القادر المازني صادقًا جدًّا حتى اعترف لنا كيف سرق مرات بعض المال من جيب أبيه، وكيف كان صمت أبيه في أكثر المواقف يغني عن الشدة والعنف. إن آثار المازني تنم عما انطوى عليه من لين عريكة وطول بال، وحسبه أن يكون بدأ حياته معلمًا ليتسع صدره، ويحتمل أكثر مما كان يحتمل.
وتحت عنوان: «مشاكل التربية» عقدت الآنسة ليلى اللبابيدي جلستين، كان موضوع أولاهما التنافس بين الإخوة، فعُزي ذلك إلى تحيز الأبوين، وكان موضوع الثانية «الطفل وتعلم الدين»، تشاركها فيها الأستاذة فائزة أنتيبا المعلمة والمربية، فذكرت روح الطمأنينة فذكرتنا بقوله تعالى: وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. أجل إن في الدين طمأنينة قلب لا تخويف. مفيد جدًّا هذا البحث، وفيه لنا، كبارًا وصغارًا، فوائد جليلة تلقي على الأديان أضواء تنير وتهدي من لا يرون الدين إلا على ضوء الأبدية.
وبمناسبة عيد الأضحى أصغيت إلى زجلية الأستاذ حسين الطنطاوي فسمعت انتقادات اجتماعية قيمة جدًّا لم تحط من قدرها لهجتها العامية، فما قولنا في رجل أنفق ما يملك على شراء كبش سمين، وما عناه أن يستدعي طبيبًا لابنه المريض؟ كل ذلك اتباعًا للتقليد، وهربًا من ألسنة الناس، وما بلاء الناس إلا ألسنة الناس، وبعد أن أشبع الطنطاوي المجتمع انتقادات مرة صادقة ختم زجليته الطريفة بالأدعية والنصائح.
وفي جلسة «التاريخ يعيد نفسه» تحدث الدكتور أحمد بدوي وحرمه، والشاعر محمد عبد الغني حسن وحرمه، فبينوا لنا أن الجيش هو الذي أنقذ مصر الفرعونية ومصر اليوم، ثم استطرد المتحدثون إلى موضوع اختلاط الجنسين في معاهد العلم، وأنا لست أرى ما رأوا لا في المعاهد الثانوية ولا الجامعات، وإن قلنا غير هذا غالطنا أنفسنا.
وروى الأستاذ أنور أحمد في حديثه عن وليم بت الذي تولى رئاسة وزارة بريطانيا في الخامسة والعشرين أنه قال عن الوزراء: إنهم أولًا يجتمعون ليلعبوا ثم ينصرفون، فذكرتني هذه النادرة بقول أحد وزراء المنتصر — أحمد بن الخصيب: «مثلي مثل الناقة التي تزين للنحر.» وفي كل حال إنني أرى سير الرجال تشحذ الهمم، وتوقظ المواهب، فليتنا نكثر منها، شرط أن تكون مكتوبة على حقها كحديث الأستاذ أنور.
وهناك حديث آخر من هذا الطراز الجيد كان موضوعه: هنري جيمس القصصي الذي اشتهر بالقصة الصغيرة. لفت سمعي في هذا الحديث قول المتحدث فيه: إن الفن لا يخلق الحياة، ولكنه يترجم الحياة، أما أنا فأظن أن هنري جيمس يقصد الترجمة بتصرف … لا الترجمة الحرفية التي تصير كالنقل، إن الفن الأصيل يترجم الحياة، ولكنه يخلقها خلقًا جديدًا، وإذا لم يكن كذلك فلا يكون فنًّا.
وكانت قصة «خروف العيد» للسيدة جهان عوني جيدة التعبير والتصوير، والتحليل الوجداني، أما قصة «زوجة صالحة» للأستاذ محمد سعيد شاهين فكانت ذات شقين؛ فالشق الأول: جدير بالانتباه، ولكن الشق الثاني كان دون الأول براعة. أكثر الأستاذ من ترديد هذه العبارة: ماتت الكلمات على شفتي، وأكثر من قوله: عندها، أي عند ذلك، أما المصيبة الكبرى في أقاصيصنا فهي أنها كادت تصير بلا قصة.