النقد السادس والسبعون
شعر الآنسة نازك الملائكة لا غبار على فصاحته، وفيه عاطفة نارها دائمة اللهب، الشاعرة متمكنة من اللغة وأصولها، وثقافتها الغربية زادتها عمق تفكير، ولعل تأثرها بشعر الغرب المحلولة عراه هو الذي أهاب بها إلى تقليده، فترسمت خطاه ناسية ما قاله الجاحظ إمام أدبنا الأول والآخر: الشعر لا يترجم، ولا يجوز عليه النقل، وإذا ترجم أو نقل بطل وزنه، وسقط موضع التعجب منه، فنصيحتي للآنسة الشاعرة أن تدع الاستقلال الناجز؛ فهو إن أفاد في السياسة فلا ينفع شيئًا في الأدب، فلشعر كل أمة خواص.
وبعد، فإن النثر المنمق خير من هذا الشعر الذي يريدون خلقه.
وهناك لون آخر في شعر نازك، هو لون اليأس الأسود، فلتنزع الشاعرة نظارتها السوداء لترى بهجة الكون، فقد كاد يكون موضوعها واحدًا، إن المائدة ذات اللون الواحد لا تشبع النهم مهما كان ذاك اللون شهيًّا.
فمن تراه يقرأ ديوان الخنساء من الجلد إلى الجلد؟ لا أحد.
كم كنت أتمنى أن يتجاوز الأستاذ عبد العزيز عريقات حدود التقريظ حين ينظر في الكتب الحديثة، فالتقريظ الصرف يثير في نفس المستمع شكًّا، ترى ألم يعثر ولو على هنات هينات يشير إليها؟ فكتاب الأستاذ عبد الرءوف المصري قال فيه: إنه يصلح للعالم والأمي، جاء في ذلك الكتاب — كما سمعت — إن العرب عرفوا كل شيء حديث: حدائق الحيوان، والنفط، وأوراق النقد، والدبابة، وعملة الورق، كنت أقرأ كل هذا عند العلامة نور الدين بيهم بمناسبة ظهور كل جديد، واليوم سمعته مجموعًا في كتاب الأستاذ عبد الرءوف المصري، وهتفت مع سليمان: لا جديد تحت الشمس.
كل هذا جيد، والأجود منه أن نقول: ها نحن، ولا نقول كنا، فلو لم يكن للعرب كل ما ذكر لما كانت لهم الإمبراطورية التي لم تغرب الشمس عن ملكها، ولما حملوا مشعل الثقافة زاهرًا أربعة قرون، وما زال الناس يعشون إلى ضوء نارهم في عصر الكهرباء …
لقد كان الأستاذ عريقات معلنًا عن الكتب الحديثة لا ناقدًا لها، فليته يقسِّي قلبه في قابل، فآفة كتبنا قلة النقد لها.
وتحدثت الآنسة ليلى لبابيدي في جلستها التربوية عن مشكلة الأكل عند الأولاد، وكانت نصيحة السيدتين أسمر وبركات ألا يطعم الولد إلا حين يجوع، وإذا ذاك يرضى بما قسم له. كنت أسمع شيوخنا يقولون: لا تأكل لقمتك إلا مغموسة بالعسل، وهم يعنون الجوع الذي وصفته السيدتان علاجًا للأولاد المزعجين، ولكن أي أم تستطيع أن تستمهل ولدها؟ وهل يفكر الولد بغير بطنه؟
حكي أن ولدًا كان يبكي على الدبس، وحاولت أمة إقناعه أن لا دبس عند أحد في الضيعة، فزاده ذلك صراخًا، ولما رأت أمه منظر عينيه قالت له: يكفيك بكاء، صارت عينك مثل البيضة، فبكى على البيضة، ونسي الدبس، ومن أين للأم البيض في شباط؟
إن قصة الأولاد قصة، أما رأيي الخاص فهو أن يشغل الولد بلعبة حتى لا يفكر بالأكل، ويدرس مشاريعه درسًا دقيقًا …
وهذا الأستاذ روكس بن زايد العزيزي يعالج موضوع الأغاني البائسة في الشعر العربي، ويبحثه بحثًا جذريًّا، فيرى أن الحرمان هو العنصر الهام في شعرنا، ويرى أن تحجب المرأة هو أحد الأسباب الأربعة التي ذكرها الأستاذ، أما الحجاب فما أراه سببًا، فإذا كان الشاعر فصيحًا أو عاميًّا، قليل الحظ من النساء، فسيان أن يكون هناك حجاب أو لا يكون؛ لأنه محجوب طبعًا …
ورأى أن ظلم الزعماء من موحيات الشعر الباكي. نعم، قد يكون هذا عند النفوس الميتة، أما النفوس الأبية فتثور ولا تبكي.
أظن أن بؤس الحياة وشقاءها عندنا هما اللذان أوحيا القسم الأكبر من الشعر الباكي الذي ثار عليه أمين الريحاني في معركة أدبية ليس يومها بسر، وإذا عدنا إلى اللغة، وهي أصدق دليل على حياة الشعب، رأينا ألفاظ السعادة تعد على الأصابع، أما ألفاظ الشقاء فنراها في معجمنا أنَّى اتجهنا.
واستطرد الأستاذ العزيزي إلى حكايات من أكلوا الأولاد، فلم أستغربها؛ لأني رأيتها بعيني في الحرب الأولى حين بسطت المجاعة جناحيها الأسودين على بلدنا. أرادها الأستاذ روكس برهانًا على الشقاء الذي أوحى إلى أدبنا بالبؤس وعدم المرح، ولكنني أحسب أن ذلك طبع فينا؛ ولذلك ندر الضحك والمرح في شعرنا.
وكان لنا من الأقاصيص قصة جيدة التحليل للأستاذ عيسى الناعوري، إنها محاولة موفقة، وعلينا أن ننوع أدبنا القصصي، فقد مللنا الطبع على غرار واحد.
وهناك أيضًا نوع آخر من القصص حاولته السيدة أمينة الصاوي، فوفقت إلى حديث في قالب قصة، أو قصة بعنوان حديث …
أما الموضوع، فامرأة فترت محبة زوجها لها؛ فتولت سيدة أخرى تدريبها وإرشادها إلى السبيل السوي.
إنني لا أحب الطرق المعبدة، فليشق أدباؤنا طرقهم.