النقد الثامن والسبعون
قصيدة «الطين» هي من روائع الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي، ولعلها إحدى الزوايا الضخام التي رسخ عليها أساس شهرته الذائعة، ولكن الأستاذ روكس بن زايد العزيزي في حديثه عن أثر البادية في شعرنا المعاصر قد عارض هذه القصيدة الشهيرة بقصيدة قالها الرميشي الشاعر البدوي، فإذا بمعانيها مأخوذة من ذلك الشاعر الأمي الذي قال قصيدته منذ سبعين عامًا وأكثر، تكاد تكون قصيدة أبي ماضي طبق الأصل، ولا فرق بينها وبين قصيدة الرميشي إلا أن الرميشي يخاطب شخصًا بعينه بينا شاعرنا أبو ماضي يخاطب البشر أجمع في شخص إنسان ما إذ يقول:
وإنك لتعجب إذ يعارض العزيزي كل بيت بآخر مثله حتى تردد قول الشاعر:
ولو كانت قصيدة الرميشي متداولة لما خامرنا شك في هذه الغارة الشعواء، فالشعراء في هذا الميدان لا يشق لهم غبار.
وتحدث الدكتور حسين هيكل، والأستاذان أمينة السعيد ومحمود تيمور عن أثر المرأة في الحياة الفكرية في مصر ولبنان، فخلصوا إلى أن المرأة مصدر إلهام للرجل كما أن الرجل يلهم المرأة، وهذا ما كان يرجوه المستمعون من مفكر كبير كالدكتور هيكل وزميليه.
وعقدت جلسة أخرى تحدث فيها الأستاذ عزيز أباظة ونظله الحكيم وأحمد عبد السيد الغزالي عن شوقي في الأدب العربي، فغلب الإنشاد فيها على الدرس والتحليل حتى كدنا نظنها مباراة محفوظات. وأخيرًا تمنى أحدهم لو كان شوقي في عصر صاحب الأغاني، فكأنه لا يكفيه أنه كان في عصر عبد الوهاب وأم كلثوم.
وتحدث أيضًا الأستاذ عزيز أباظة عن الشاعر أبي القاسم الشابي في ذكراه، فكان أعمق وأدق منه في جلسة شوقي، ألم بأغراض شعر الشابي؛ فذكر كيف كان ينظر إلى المرأة وإلى الطبيعة، ولم يروِ له إلا الشعر الذي يؤيد رأيه فيه، وتحدثت الدكتورة بنت الشاطئ في ذكرى مي وملك ناصف، فكانت عبارتها أنيقة، وتحليلها لنفسية الأديبتين عميقًا، عدلت الدكتورة عن الطريق المعبدة في مثل هذا المقام، وأرتنا أن ملك ومي قد فجعتا بأنوثتهما، فكانت فجيعتهما غنمًا للأدب.
وقال الأستاذ سعيد عقل: إن العرب لم يتغزلوا، فهل من يقول لي ماذا نسمي ذلك الشعر القديم؟ وإذا لم يكن ذاك الشعر غزلًا فمن يقول لنا كيف يكون الغزل؟ أيريد أن يقول سعيد لا غزل قبل رندلي؟
وفي «حصاد الفكر العالمي» كانت السعادة موضوع الدكتور عبد الوهاب خياطة، استمد موضوعه من كتاب الأغذية الأرضية لأندره حيد، وليس كل قارئ وسامع يشايع جيد في شهواته اللحمية. وبعد، فالسعادة ستظل ضالة الإنسانية تنشد ولا توجد، فليكتف الناس بما يرون فيه سعادتهم، واطمئنان قلوبهم.
أما عنوان حديث السيدة أسمى طوبي «حواء عند ابن معتوق» فظريف، ولكن الدرس غير عميق، فابن معتوق شاعر موسوي تهمه حواء كثيرًا، وأي شاعر لم يهتم بحواء؟ لقد أحسنت السيدة طوبي إذ عرجت على شاعر كاد يُنسى مع أنه شاعر غزل رقيق جدًّا، وإن لم يطبع على غرار سعيد عقل!
وكانت الندوة النسائية للسيدة أمينة السعيد، فحلت محلها الآنسة سميرة عزام، فتحدثت إلى الدكتورة إكرام الصغير، والآنسة إحسان دمشقية، وكان الموضوع: «هل قامت الفتاة الجامعية برسالتها؟» فكان الإجماع على أن الفتاة الجامعية الشرقية لم تؤدِ رسالتها؛ لأن مجتمعنا لم يتعود بعد أن يرى الفتاة طبيبة أو محامية، كما أن التعليم لم يوجه الفتاة التوجيه الملائم.
إذا كان الفتى لم يحسن بعد توجيهه العلمي فكيف بالفتاة؟ وأما والحديث عن «الرسالة» فإني أرى أن صاحب الرسالة الحق لا يحتاج إلى من يوجهه، بل هو يشق طريقه، أنثى كان أم ذكرًا، فعدم ثقة الفتاة بنفسها — كما قلن — وعدم ثقة المجتمع بها، والنظر إليها كمنافسة لا يحول — في نظري — دون سيرها في ميدان الحياة، فالمستقبل فريسة النشيط.
و«شجرة القمر» للشاعرة نازك الملائكة كانت موسيقية الجرس، لم يضعفها طولها؛ فظلت محافظة على مستواها العالي، ولكن قول الشاعرة: وأين سيهرب … إلخ، لم تستسغه أذني، فهذه السين بعد الاستفهام لم تقع عليها عيني، ولا سمعتها أذني بعد.
وفي القصة الشرقية «مزرعة الآلام»، وهي جيدة الختام، استعمل كاتبها الحماس بدلًا من الحماسة، وقال: حدق فيه، وهي حدق إليه، وقال: في يوم من الأيام، واليوم لا يكون من الليالي. إن الأقصوصة الناجحة كالقصيدة الغراء، ولهذا يجب أن تكون سليمة اللغة.