النقد التاسع والسبعون
كانت مشكلة الأدب أبرز أحاديث هذين الأسبوعين، فهذا الدكتور إسحاق موسى يلم بما ثار ويثور حول الأدب من نقاش، ثم ينظر في واجبات الأديب من حيث الالتزام وعدمه، ثم خلص إلى القول: «إن الالتزام إذا كان من الداخل، أي من أعماق نفس الأديب، فهو حسن وطبيعي، وبه يؤدي الأديب الرسالة الأدبية، أما إذا كان يكتب بوحي من الخارج، أي تسير قلمه عوامل خارجية فهو غير أديب.»
فرق الدكتور الحسيني بين الأديب والكاتب، ولعله — وإن لم يقل — يريد أن يسمي «الأديب الانضوائي» كاتبًا؛ لأن الأدب الحقيقي فوق كل شيء حتى الحقيقة، إنه سحر، ثم تطرق إلى ما يقال عن إخفاق أدبنا الحاضر، وراح يفند ذلك.
إن الحكم على إخفاق الأدب وفلاحه لمنوط بالغد، ماذا قيل عن الجاحظ في زمانه؟ كم استخف بكتبه ذاك الناقد الذي رد عليه الجاحظ في مقدمة كتابه الحيوان؟ ومع ذلك أعطي الجاحظ الصدارة، وصار لقبه شرفًا يتمناه كل كاتب.
ثم عكف الدكتور إسحاق على العامية والفصحى، فعالجهما معالجة خبير، وعندي أن دعاة هذه البدعة هم الذين يجهلون الأصول، وقديمًا قيل: الناس أعداء ما جهلوا، فلا حرم أدبنا ولغتنا ممن يدافع عنهما بحماسة حارة كالدكتور الحسيني.
وتحدث الأستاذ عبد الحليم عباس عن الأدب، فنصح الأدباء والمتأدبين أن يقرءوا كثيرًا، وألا يختاروا السمين دون الغث، بل عليهم بالاثنين معًا، إن هذا ضروري لمن لم تتكون شخصيته بعد، وهو لا يزال في مقتبل العمر، أما من كان مثلنا، فلا بد له من الانتقاء؛ لأن مدته قد قصرت … لقد أحسن الأستاذ عبد الحليم النصح، فبدون المطالعة يظل الأدب أجوف، ومن أين يستمد الكاتب أو تتغذى مخيلة الشاعر إذا كان لا يطالع؟ أليست المطالعة للذهن كغذاء للجسم؟ وتأييدًا لرأي الأستاذ عبد الحليم عباس في المطالعة أذكر ما رُوي عن الجاحظ من أنه لم يكن يمر بورقة مرمية على الطريق إلا تناولها وقرأها، فإن كان ما فيها تافهًا قرأها ثم رماها، وإلا احتفظ بها.
وتصدى الدكتور جميل سعيد للتربية المدرسية، فرأى أن مدارسنا تعلم ولا تربي، ولا تحسن معالجة نفسية الفتيان لتجعل من الفتى رجل غد، وذكر كيف عالجوا في إحدى مدارس إنكلترة ولدًا كان قصير القامة، صار مهزأة لرفاقه؛ فكرههم وكره المدرسة، رأى مربوه ما يعاني من مركب نقص فداووه وصار شابًّا محترمًا فيما بعد.
هذا ما عالجته المدرسة، أما بشار بن برد فعالج هو نفسه، وكان سلاحه شعره الهجائي فرد به ازدراء البيئة له، أما الولد الذي تظلمه الطبيعة عندنا فيكون رفاقه له أظلم، ولا يحرك المربون ساكنًا؛ لأنهم معلمون لا مربون.
وفي بريدنا الأدبي سمعت حديثًا رائع المقدمة عن لبنان تخلص كاتبه إلى الشاعر بشارة الخوري، والمقابلة بينه وبين الأخطل الكبير في الشعر المدحي والخمري، وفي سرد شعر الأخطل الكبير قيل: شمس العداوة (بفتح الشين)، وهي شمس جمع شموس بالضم. وقيل: عيافو الخنا، (بكسر الخاء) وهي بالفتح، ويندمج مع هذا الخطأ قول من تحدث في ذكرى ميثاق الأمم المتحدة: إن لميثاق الأمم هدفان، وهي هدفين (اسم إن مؤخر).
ما أجمل ما تكون الجلسة حين يديرها الدكتور زيادة فيشيع فيها ظرفًا، فهو أقدر من عرفت في حصر النور في بؤرة العدسة، فإذا أدار جلسة حاول أن يحول دون الخروج عن الموضوع، فيعيد المباحث إليه إما بنكتة غير موجعة، أو برأي وجيه، ولا يدع الموضوع دون أن يسبر أعماق أعماقه، كما حصل في الأخير مع السيدة جوليا سعيد، والأستاذ محمود زايد في موضوع الفلسفة اليسارية، ومعنى الحرية.
اختارت السيدة صبيحة فارس كتابًا كان خير مرشد إلى الزواج الصالح الهادي، فليت المستمعين ممن لا عمل لهم ولزوجاتهم غير النقار، يصغون إلى أحاديث برنامج المرأة، ففيه ما يشق لهم درب حياة هادئة.
أما ركن الطلبة فكاد يصير مدرسة مجانية قائمة أركانها في الهواء، فصاحبها الأستاذ موسى الدجاني، يدخل إليها دائمًا عناصر جديدة، جمع فيها الأستاذين محمد عبد الغني حسن وزوجته الأستاذة رقية بدير ليتحدثا عن ذكرياتهما، فأفاض الشاعر عبد الغني في ترديد ما قاله شوقي في الذكريات. وشاءت زوجته أن تتحدث فقاطعها ليعيد ما قاله شوقي في معنى ما تقول، كنا نتوقع أن نسمع ذكريات الشاعر الطريفة فأكثر من الرواية وأقل من الحكاية، وحسنًا قال حين أجاب: أما الفن للفن، والأدب للحياة، فلا أدري كيف أفصلهما.
قصة الأسبوع للأستاذ جبرا وعنوانها: «الشجار» هي من النوع القصصي الطريف الذي يتعمد تصويره قطعة من الحياة، وقد نجح كاتبها فيما قصد إليه، أما السيدة ناجية تامر في «ضربة فأس» قتلت بها امرأة زوجها العاتي، فأظنها قد حملت المرأة أكثر مما تستطيع، لا أقول: إن هذا مستحيل؛ ففي النساء جبابرة كما في الرجال، ولكنه نادر الوقوع جدًّا.
ذكَّرت السيدة تامر القِدر وهي مؤنثة، وقالت: اضطَرت وهي اضطُرت، إن من يريدون إحلال العامية محل الفصحى يرون هذا تحذلقًا، أما أنا فأرى أن على الكاتب أن يكتب صحيحًا، ويقرأ صحيحًا.