النقد الثامن
كيفما جلت في برامج محطة الشرق الأدنى تجدك كأنك في مخزن من هاتيك المخازن الحديثة التي تكفيك مئونة اللف والدوران في شوارع المدينة، ما كفى المحطة أن جعلت برنامج المزارعين أسبوعيًّا حتى أعلنت أمس استعدادها لإجابة كل مزارع عما يسأل، كانت المحطة منذ أعوام، ولا تزال، وكالة أنباء مجانية تغذي الصحافة العربية نشرتها الإملائية، وها هي تصبح اليوم معهدًا زراعيًّا، والله أعلم ماذا تحدث غدًا من فروع.
كان الضمان الاجتماعي هدف البرامج منذ أسابيع، وآخر ما سمعت عنه كان حديث الأستاذ نور الدين داود الذي ألقى نورًا على هذا الموضوع، وزوَّد السامع بمعلومات وافية، ثم تحدث الأستاذ محمود أبو زايد عن هذا الضمان أيضًا في «ركن العمال»، وراح بعدئذ يحدثنا عن حالة عمال شرقي الأردن وفلاحيها حاثًّا على تأليف النقابات، ويدخل البرنامج صميم البيت، فتبدي السيدة نجوى ملاحظات ثمينة للنساء اللواتي يتجمعن حول من يدركها المخاض، فتزداد ضيقًا على ضيق، ولا تنتهي السيدة نجوى من إرشاد النساء ليحسنَّ تربية الطفل الأول حتى تتناوله الآنسة فوزية ناجي من حيث علاقاته مع والديه، وتشير عليهما بما يفعلان ليربيا ولدًا مفلحًا. وينتقل البحث إلى المدرسة فتعقد جلسة نسائية في الأردن حول هذا الموضوع. إن التربية البيتية يا سيداتي هي أساس تكوين الشخصية، المدرسة لا تقوِّم ما اعوج في البيت، وقد جربت هذا عشرات السنين، وما وفقت إلا قليلًا، فعليكن وحدكن المعول، قال القدماء: قل لي: من تعاشر؟ أقل لك: من أنت؟ وأنا أقول بعد التجربة: ابنك ينم عن بيتك.
ومن هنا ننتقل إلى موضوع آخر يقرب من هذه ألا وهو مشكلة تعليم اللغة العربية، تناول هذا الموضوع ثلاثة من أساتذة الجامعة الأميركية، فقالوا: إن أساليب هذا التعليم عقيمة، ولكنهم لم يصفوا دواء يصيرها ولودًا … سمعتهم يقولون: طريقة علمية، وأما ما هي الطريقة العلمية فلم يقولوا، وقالوا: فلنضرب بضرب زيد عمرًا عرض الحائط، ولكنهم لم يرشدوا إلى الضربة القاضية، وتحدثوا عن الكتب الحديثة، وأراها موجودة، ولكنها تحتاج — في نظري — إلى من يحسن قراءتها ليعلمها غيره … وذكروا سرعة القراءة، وكيف يقرأ غيرنا ٥٠٠ كلمة في الدقيقة، فهل أغالي إذا نشدت عشرة تلاميذ وحائزين البكالوريوس يقرءون عشرة أسطر قراءة صحيحة!
ورأى الأساتذة الأفاضل شهلا ورفيقاه أن مفردات اللغة تحتاج إلى تنقية، أفلا يرون معي أن الدهر نقاها؟ فمن يقول اليوم، كما قال لبيد:
وبعد، فأرانا محتاجين إلى من يحل هذه العقدة لا إلى من يصفها.
وإذا رافقنا ندوة الشرق الأدنى إلى دمشق سمعنا الأستاذ شفيق جبري، يحدثنا على هينته أحاديث طلية عن الأمس القريب، فخيل لي أنه غريب عن الساعة التي هو فيها، كان مستوليًا دائمًا على المبادرة يصل حكاية بحكاية، ويا ليته تكلم ساعة.
وكان عندنا في هذه الفترة أربع ذكريات: الأولى: ذكرى علي الجارم، وقد أعد لها السيد موسى الحسيني برنامجًا رائعًا، فعرف الكثيرين بالفقيد الغالي، وأسمعهم شيئًا من شعره ونثره وأخيرًا صوته، وهذه الصفائح الناطقة التي تنشر الموتى، وتهيج شئون المحبين هي إحدى حسنات هذه المحطة، ولولاها لم يسمع صوت فؤاد سليمان في حفلة أربعينه.
والرابعة: ذكرى الشاعر المبدع فوزي المعلوف، فكانت الكلمة فيه لأخيه رياض، فأحسن حين سرد ما قيل في أخيه، ولكنه لم يتأنَّ في ضبط حديثه، فقال: المنحوتة قلاعها — بفتح العين — ثم قلب كلمة دراستها — على وجهين حتى استقامت حركتها أخيرًا.
ومن الأحاديث الأدبية كان لنا حديثان: واحد عن الأدب الجاهلي، وأدب البادية أرانا فيه الأستاذ العديسي تقلب شعراء البادية في رواية شعرهم يوم لم تكن حقوق المؤلف محفوظة. والحديث الآخر عن الشاعر كيتس، فقال الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا نقلًا عن الرواة: إنه كان يفرض على نفسه نظم خمسين بيت شعر كل يوم، إن مثل هذا الفرض غريب، ولكن الشعراء في كل واد يهيمون.
ومن أقاصيص الأسبوع قصة «الجوكاندا القاتلة» للأستاذ يوسف يعقوب حداد ليت الكاتب يقل من غرابة العقد التي يوثقها في بعض قصصه، بل ليته يعمل بقول الجاحظ في بخلائه بعدما روى حكاية لا تصدق. قال: وإنما نحكي ما كان الناس، وما جوز أن يكون فيهم مثله؛ لأن الإفراط لا غاية له.
أما أقصوصه «ربيع» للأستاذ رشاد دارغوث فهي جيدة سبكًا وتحليلًا، ولكنها ليست فنًّا، من طراز تلك الأقاصيص التي يحسنها، ويتفوق فيها؛ لأنه يعيشها ويرى محيطها وشخوصها.