النقد الحادي والثمانون
يظهر أن بحور الشعر نضبت، ولم يبقَ لشعرائنا المعروفين في عالم الشعر إلا العودة إلى دفاترهم العتيقة إن لم نقل إلى دواوينهم، فأكثر ما أسمع فيما يسمونه أمسية شعرية أو روضة الشعر هو من أعتق طراز، ففي الندوة الشعرية أنشدت الشاعرة دليلة رضا قصيدتين، كانت الأولى خيرًا من الثانية، ولعل تفلتها فيها من قيود القافية أضفى عليها تلك الأناقة.
أما الأستاذ عبد العزيز الغزالي، فأنشد قصيدة قالها في الفيوم تستحق أن يحتفل بيوبيلها الفضي؛ لأنه نظمها كما أعلن منذ ربع قرن، ثم أنشد الشاعر أحمد رامي فيومية أخرى، وكلتا القصيدتين لا تشكوان إلا العتق الذي لا يحمد في الإذاعات التي تتطلب الجديد دائمًا. إن دواوين الشعر في متناول المستمعين، وكم سمعتهم يتذمرون من هذه البضاعة القديمة ويتلهفون إلى سماع الجديد.
والأستاذ أحمد يوسف أنشد قصيدة رنانة عنوانها: «تعالي»، فبدا لي أنه شاعر ديباجة أكثر منه شاعر خيال، لقد أحسن إذ اختار الأوزان الخفيفة القصيرة؛ لأن تعبئتها أسهل من تعبئة غيرها، ولذلك فارقته تلك الديباجة المتينة في قصيدته «ذكرى مهاجر» التي من بحر البسيط.
وتحدث الأستاذ خليل هنداوي في موضوع: هل للشعر رسالة، فنفى أن يكون في الشعر أوامر تعطى، وأن الرسالة لا تفرض فرضًا، وخلص أخيرًا إلى القول أن رسالة الشاعر هي رسالة الجمال.
هذا الموضوع يشغل اليوم بال المتأدبين، فكل واحد من هؤلاء يريد أن ينضوي الشاعر تحت اللواء الذي يرفعه حزبه، وإلا فكلامه هراء، أنا أعتقد أن الشاعر بل الأديب لا تصدر له مراسيم، ولا يعنينا موضوعه كما يعنينا فنه، وهب أنه حاول أن يؤدي رسالة فهل يؤاتيه فنه؟ أفلا يلتقي والصحفي على صعيد واحد.
وعالجت سيدة أو آنسة — لم أتثبت من اسمها — لأن الرعد حال دون وضوحه، موضوع تشاؤم ابن الرومي، إن الموضوع مبتذل، وما أكثر من تحدثوا وتحدثن عن تشاؤم ابن الرومي والمتنبي، إن ابن الرومي ولد متشائمًا متطيرًا قبل موت امرأته وأولاده، أما المتنبي فلا يصح أن نحشره في زمرة المتشائمين المتطرفين، فما أبعد التشاؤم عمن يقول:
إن رجلًا عاش قعيد بيته كابن الرومي لا يحصى مع القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني، فأين من يصارع الدهر طول عمره، من رجل تأخذ بيته أنثى!
كان موضوع «عبودية الإنسان للآلة» الذي عالجه الدكتور حكمت هاشم دراسة قيمة ممتعة تفتح أمام الفكر آفاقًا بعيدة واسعة، يقول الكثيرون منا: لقد قل ظهور الشعراء في هذا الزمان، وهذا حق فالإنسان صار عبدًا للمادة، بل للآلة التي اختزلت المسافة، وحالت دون التأمل والتخيل اللذين يدعو إليهما السير الوئيد، فأين إلهام البواخر من وحي الشراع المتهادي؟!
ويقرب من هذا الموضوع ما عالجته أستاذة الفيزياء الآنسة سلوى نصار، قالت باختلاف نظر العالم والشاعر إلى الزهرة؛ وأظن أن الأمر أوسع مما ذكرت، أرى أن كل إنسان ينظر إلى الأشياء بعين موهبته أو مهنته، أما أخبرنا الجاحظ أنه عندما روى لفاخوري الأبيات السينية التي قالها أبو نواس: تدار علينا الراح في عسجدية … أنه أظهر إعجابه بها بقوله: هذا شعر لو نُقر لطنَّ، فقال له الجاحظ: إنك تتحدث بلغة جرارك.
قالت الأستاذة نصار: العلم يوصلنا إلى الحقيقة، وأقول أنا: إن العلم يوصل إلى الحقيقة الجافة التي تجهز على الخيال فتقطع الرجاء، ويا تعس من يعيش بلا أمل.
وفي ركن «أزواج أمام الميكروفون» تحدث الأستاذ راجي صهيون عن التكافؤ بين الزوجين الذي يوجد في البيت رأسين، فتذكرت الحية ذات الرأسين التي زعم أرسطو أنها وجدت، فراح الجاحظ يكذبها. حقًّا إن وجود الرأسين في الجسد الواحد بلية، وما الزوجان إلا واحد.
وقال الأستاذ صهيون: إن مشاركة المرأة للرجل في شئون الحياة كانت بعد الحرب الأولى، مع أن المرأة منذ الجاهلية كانت تشارك في الحرب، كما يتضح من قول عمرو بن كلثوم:
الدكتور أنيس فريحة من جهابذة علماء اللغة، ومشكلة اللغة تشغل باله، عالج في تآليفه وبحوثه هذه المعضلة التي لا تحل؛ لأن قلب اللسان العربي رأسًا على عقب لا ينتظر، فخير لنا أن نسهل ولا نبدل، والمجال واسع أمامنا، وما أظن آفة اللغة إلا علماء اللغة … فمنهم الجامد، ومنهم الطافر، وكلا هذين إن زاد قتل.
أما الأقاصيص فلم يكن فيها ما يلفت النظر، فليت كتابها يُقلُّون من هذا الأدب الفطير.