النقد الثاني والثمانون
تحدثت الدكتورة إكرام الصغير بمناسبة ذكرى حقوق الإنسان، واستطردت إلى حقوق المرأة فأفاضت، والذي أراه أننا جميعًا — نساء ورجالًا — نطلب حقوقًا، فمن عهد يسوع إلى زمن محمد إلى الثورة الفرنسية إلى شرعة ولسن بعد الحرب الأولى، إلى التي نعيد اليوم لذكراها، وهذه الشرعات توضع وتعلن، أما ما أدركناه اليوم فليس بالقليل، وهذا ما أوضحه الأديب العلامة الأستاذ فؤاد صروف، لم يهلل الأستاذ لهذه الحقوق وإعلانها، ولكنه راح يعرضها على محك العلم مبينًا الأسباب العلمية الاقتصادية التي دعت إلى إيجادها لاطمئنان الإنسان، وتركيز شخصيته على أسس راسخة، وهذا دأب الأستاذ صروف مؤلفًا ومحدثًا.
وفي باب «من هنا وهناك» نقلت إلينا الآنسة فريدة خوري سلسلة أساطير غنية بالغرائب، وأغربها تحجب الرجال لا النساء، لست أستغرب شيئًا؛ فالتاريخ حافل بالأضداد، فهذه التوراة تخبرنا أن الحجاب لم يكن للحرائر في ذلك الزمان، بل لغيرهن من الآدميات.
كان حديث الدكتورة سميحة فاخوري — شخصية الشهر — خليطًا من العامية والفصحى بلهجة مصرية، والموضوع «الموسيقى الإسلامية»، فماذا كانت تترك لأم كامل لو تحدثت عن الشئون العارضة؟ إن مواضيع رصينة كهذه لا يعبر عنها بهذه الرطانة، ولا سيما أن المتحدثة دكتورة.
وأعجبني من الأستاذ رشدي معلوف تحدثه عن التخصص بالأمومة، ولعلنا نحن أحوج ما نكون إلى هذا، أما قال جبران: وجه أُمي وجه أمتي؟ فما أحرى هذا الوجه أن يكون جميلًا.
وليس هذا كل شيء، بل هناك في هذا الحديث الممتع — حديث رشدي معلوف — شيء آخر طريف، وهو التفريق بين الأم والوالدة، فليست كل والدة أمًّا في نظر الأستاذ رشدي، ولا بدع إن صدر مثل هذا عنه، فقد عودنا فيما يكتب على مثل هذه الاكتشافات في التفكير والتعبير كما نقرأ تحت عنوانه الدائم: «مختصر مفيد».
وتحدث الأستاذ علي الخطيب عن الانتفاضات الأدبية عبر تاريخ الأدب العربي، فوفق إلى شيء كثير، وخصوصًا في ختام حديثه حيث قال: إن أدب النكبة، نكبة فلسطين، كان نكبة فينا. أظن أننا نظلم الشاعر إبراهيم العريض في هذا الإطلاق، فملحمته أرض الشهداء لا تقل وزنًا عن الشعر الذي عده الأستاذ علي الخطيب من الانتفاضات الأدبية.
وكانت جلسة الفكاهة في الأدب العربي معقودة اللواء للدكتور عبد اللطيف حمزة، فأفاض هو والدكتور شوقي ضيف والأستاذ حمودة في هذا الموضوع، ولم ينسوا صاحب البند والعلم في الأدب الضاحك، بل مبدعه في الكتاب العربي، وما أعني إلا الجاحظ صاحب ذلك الوجه الظريف الذي أضحك عصره والذرية، ولا يزال يضحكنا حتى اليوم. إن الضحك عنصر هام من عناصر الحياة، لست أدري إذا كان في الجسم غدة تفرز الضحك، ولو كنت خالقًا لخلقتها كما خلقت غيرها من الغدد الأخرى.
وأحاديث الذكريات كان خيرها وأجمعها حديث الدكتور جبرائيل جبور بمناسبة ذكرى الأمير شكيب أرسلان، إذا عالج الدكتور جبور موضوعًا يخرجه على حقه ترتيبًا وتبويبًا بلغة نقية لا غبار عليها، وقد تمنى حضرته لو يقوم من يدرس الأمير شكيب أرسلان دراسة كاملة، ومن أجدر بهذا من دكتورنا الأستاذ جبور صاحب دراسة عمر بن أبي ربيعة الفذة؟
وفي الجلسة الشعرية النجفية التي قدمها الأستاذ رشاد بيبي كان شعر شباب حقًّا، وإذا أفاض الأستاذ بيبي في تقديمه لهم فهو على حق، فهمزية الشيخ جميل حيدر جميلة، طيبة، مجنحة الألفاظ مدبجة التعبير، بعيدة عن القديم، فجاءت بخلاف ما كنت أتوقع من معقل الفصحى، ومثلها قصيدة الأستاذ محمد الهجري التي قالها في ابنه، فالأماني اخضرت فيها، وألذهن فكرة معطرة. ومن هذا الطراز الموشى شعر الشاعرين الآخرين، وإني أهنئ الأستاذ رشاد بيبي على هذا الاكتشاف، أما اعتذار الأستاذ بيبي عن حداثة سن هؤلاء الشعراء ففي غير محله، فهذه هي سن الشعر، إننا في حاجة إلى الاكتشاف دائمًا، والشهرة كثيرًا ما تعمي وتصم، فلنفتح أذاننا وأعيننا.
ومن السودان غنانا في روضة الشعر شحرور رخيم الصوت، ولكنه — ويا للأسف — شاعر عامي لم أفهم منه شيئًا، إلا أنني استفدت عبرة، وهي أنه لو تغلبت العامية على الفصحى لانحلت العروة الوثقى بين أقطارنا، ويتم إذ ذاك قول المتنبي: فما يفهم الحدَّاث إلا التراجم.
وفي الأقاصيص كانت قصة الأستاذ محمد روحي فيصل جيدة التحليل والسياق، لم أستغرب عنوانها: «حفلة غرام على البلاج»؛ فالبلاج ليس لزياح القربان، ولا لحلقات الذكر، وقد كان الأستاذ روحي بارعًا جدًّا في طمر ختام هذه الأقصوصة …
وكانت قصة الآنسة سميرة عزام من طراز أقاصيصها الجيدة، ولعل هذه كانت أسهل معالجة، مسكينة بطلة قصتها، فتشت طويلًا عن حبيب جبار، فوقعت في شراك مغامر يكره التأجيل … وما أنقذها منه إلا الفرار.
أما الأستاذ أحمد سويد، فلم يحالفه التوفيق الذي كان يمشي تحت لوائه في أقاصيصه السابقة، فأقصوصته «رسالة إلى …» مقصرة عن أخواتها، لم يعجبني قوله فيها: فامتطيت سيارتي، فالامتطاء كثير على السيارة؛ لأنها في متناول الرجل لا تقتضينا امتدادًا وتطاولًا، ناهيك أن هذه اللفظة قد أمست حَرِيَّةً بدور الآثار.