النقد الثالث والثمانون
«الميلاد عيد الأمل الجميل»، وهذا كان عنوان حديث الدكتور أنيس فريحة، وبهذا بشرت الأوركسترا الملائكية حين أنشدت: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر، أما الجميل في حديث الدكتور العلامة فهو إزاحة النقاب عن وجوه تلك المساخر التي تنشر في هذا اليوم الخالد، دلَّ الدكتور فريحة على مصادرها، وفك رموزها، فصارت ذات معنى رفيع، وكبرت في عين الناظر إليها بعد ما كانت مهازل.
إن مفاهيمنا للعيد — ويا للأسف — قد أمست مفاهيم أكل وشرب وثياب جديدة، نغيِّر على ما أجسادنا، وتبقى نفوسنا كما كانت. جميلة هي النظريات التي تحدثت عنها السيدتان الأستاذة زاهية أيوب والشاعرة أدفيك شيبوب، ولكنني أعتقد أنها حبر على ورق، فالسر ليس في فهم العيد، بل في العمل.
ومن نوع مفاهيمنا للعيد كانت جلسة «المواطن الصالح» التي تولى مناقشة موضوعها الأساتذة نقولا بسترس، وزاهية قدورة، وكمال الحاج، لا يجهل أحد كيف يكون المواطن الصالح، ولكننا نحن أحوج إلى من يخلق لنا هذا المواطن، فعلى من يتولون شئون الثقافة والتربية أن يسهروا على تكوينه، فالتعليم غير التكوين. إن المبادئ التربوية كالأصول الزراعية، فعلينا أن نغرس ما يوافق تربتنا، وينمو فيها.
وهناك جلسة ثانية كان موضوعها «الأدب المعاصر والشعر التمثيلي»، بحثها الأستاذ عزيز أباظة مع الدكتور إبراهيم سلامة، والأستاذ عبد المجيد الغزالي، وقرَّ رأيهم على أن الفكرة والعاطفة هما لجميع الناس، والأديب بأسلوبه، وهذا ما عُبِّر عنه منذ البدء بسحر البيان. أوصى الدكتور سلامة بضرورة درس الآداب العالمية إلى جنب درس أدبنا العربي لتتطور أساليبنا التي تحجرت. نعم، إن التطعيم ضروري في كل شيء، حتى الأدب. أعجبتني تسمية القافية أمَة متبرجة، فالفكر والتعبير جميلان، ولكن لا ننسى أن للقافية جمالًا، وليست كل قافية أمة متبرجة، فمتى استقرت في مكانها غير مقهورة ولا مجبورة كانت سيدة البيت لا أمته.
إن الشعر — وخصوصًا العربي منه — لا يصلح أداة للمسرحية، تاريخية كانت أم غير تاريخية، المسرحية تقوم على الحوار، وإذا كان الحوار غير طبيعي في النثر فكيف في النظم؟ أما القافية المطلقة فالنثر خير منها.
وتحدث الدكتور أحمد عبد المنعم عن الأدب الجاهلي والقصة، فعدَّ من الأقاصيص حكاية امرئ القيس مع التي سما إليها سمو حباب الماء. أجل إنها قصة، وفي الشعر العربي أقاصيص، ولكن الذين يقولون بخلو أدبنا القديم من القصص إنما يقيسون على أقاصيص اليوم، ومثل هؤلاء مثل من يقول: إن جده كان عريان؛ لأنه لم يلبس على طراز اليوم … إن القصة ابتدأت مذ قال الله للدنيا كوني فكانت، أما الأزياء فتتغير، وسيمسي هذا الجديد قديمًا …
وفي روضة الشعر أنشد الأستاذ محمود حسن إسماعيل شعرًا جيدًا، فكانت قصائده الثلاث من الشعر الرصين المرنان كقوله في إحداها:
وإن كانت لفظة يغلفه أخشن من السر والضمير … أما الأستاذ سعد الدين فوزي فقد أتعبه الشعر القصصي في قصيدته الأولى، والشعر القصصي متعب حقًّا، ولعل قصيدته الأخيرة، وهي وجدانية، قد كانت أشعر من أختها.
وذكرتني قصيدة الأستاذ سالم علوان الحلبي، وموضوعها «عقوق ابن» بقصيدة لبيد: غذوتك مولودًا، ومنتك يافعًا … فما أمر عقوق الأبناء! أما الأستاذ محمد الدوير فقد جمع بين القبر والطير والأجر في قافية واحدة، وهذا غير مقبول.
والأستاذ محمود غنيم استهل قصيدته «مضيفة الطائرة» بقوله: سائلوا الركب، ركب أخت العقاب، مسكينة أخت العقاب إنها لا تصلح أختًا لهذه الطائرة، فإذا سمعت زئيرها كرت إلى وكرها تسأل ربها الستر.
وبعد أن وصف أنس تلك المضيفة وصفًا جديرًا بكل حسناء، ختم قصيدته بقوله: أنا أشتاق رشفة من رضاب. يظهر أن الجو كان مؤاتيًا، والبال فاضيًا …
أما الأقاصيص، فكان إلقاء قصة «الوجه الناقص» ناقصًا، نغَّم قارئها، ورخم كثيرًا غير حاسب حسابًا لضعف البث في الساعة الثامنة، ولذلك ضاعت القصة بين الهزيم والترخيم.
وفي أقصوصة «وفاء» أجادت السيدة سلمى الحفار الكزبري في رسم الإطار، وأحسنت أيضًا وصف الناس الذين يتحدثون في العزاء عن الفقيد، بعباراتهم التقليدية.
وفي قصة «حين يبتسم الحظ» ما ترك الأستاذ رضوان مولوي شيئًا مما يقال بمناسبة عيد الميلاد إلا وصفه حتى المطر الغزير الذي هو من متممات جو هذا العيد. هرب بطل القصة المفلس من جو بيته؛ فابتسم له الحظ ورزق مبلغًا حلالًا، مكنه من حمل الهدايا إلى البيت، فشكر الصغار البابا نويل. أما الأم، وقد أعجبها العقد، فأثنت على ذوق زوجها، وهكذا حلت البسمة محل الجهمة، وعيَّدت العائلة.
كانت قصة رضوان المولوي خير أقاصيص هذا المنهاج، وكانت حافلة بدقة التصوير، وحسن السياق، والسير الحثيث نحو الهدف، ومع ذلك بخل عليه المذيع بكلمة «الأستاذ» المبتذلة … إن على محطات الإذاعة، والمجلات والجرائد أن تكتشف من يستحق وتنوِّه به.