النقد الرابع والثمانون
عقد الأستاذ رشيد شقير جلسة عامرة موضوعها: «الهجرة من القرية إلى العاصمة»، وقد أصاب المتكلمون فيها كل الإصابة، فالقرية لا يُعنى بها أحد، وكل هم الدولة في العواصم والمدن، فالقرية — على ما فيها من عمران — محرومة من جميع أسباب الترفيه، ومع ذلك فالقرى اللبنانية لا يصح أن تُسمى أريافًا؛ لأنها جبلية، والريف إما أرض فيها زرع وخصب، وإما ساحل يقارب البحر، فأين لجبالنا ما لريف مصر من طمي وماء؟ ولكن كتابنا يستملحون ألفاظًا فيقبلون عليها ويلحون.
ورغم إهمال القرية اللبنانية، نراها عامرة زاهرة تتألق على صدر الجبل عقودًا مختلفة ألوانها. إن العمران في لبنان محصور في شطوطه وفي مدن الاصطياف، حتى نستطيع أن نشبه هذا البلد بصندوق تفاح أفخر ما فيه ما يواجهك حين تفتحه، أما الرديء ففي الكعب، ولو صلحت القرية لاستراحت العاصمة من هذا الضغط الذي يؤدي حتمًا إلى الشلل أو الفالج.
وتحدث الأستاذ عز الدين فراج فنعى علينا أننا نلقي كل التبعات على الحكومة، ونطلب منها أن تقوم بكل شيء، وضرب مثلًا على ذلك ما حدث في إنكلترة مرة: سعرت الحكومة اللحم ولم يتقيد بذلك الجزارون، فأعلنت الحكومة أن الكلمة للشعب، فقال الشعب كلمته، وأضرب عن شراء اللحم، فأطاع الجزارون، ورضخوا لأوامر الحكومة.
ومن المواضيع المبتذلة ما حدثنا به السيد كمال قدورة عن الأدب وتذوقه، وقد قال: «إن للأدب معنيان»، وهي معنيين؛ لأنها اسم إن مؤخر. وكذلك كان موضوع السيد بشير جحى «الشاعر والإنسانية»، فمثل هذه المواضيع إذا لم يبتكر صاحبها شيئًا كانت سوادًا على بياض، تحدث الأستاذ جحى عن الشاعر والإنسانية، ولكنه لم يقم دليلًا على ما يستفاد من عنوانه في الشعر الذي رواه لشوقي، وحافظ، وبشارة الخوري، ورشيد الخوري، لم يروِ لهم إلا الغزل، وما أرى الغزل برهانًا على عنوان موضوعه.
أما كلمة الأموي بضم الهمزة، فهي أموي بفتحها، ولكن قل من يعير هذه الهنات اهتمامًا، فجل كتابنا يكتبون ولا يقرءون.
وفي ركن الأدب تحدث الأستاذ عبد الوهاب حمودة عن الصدق والكذب في الفن، وحاول أن يبرر كذب الشعراء، ويقربه من الصدق، إن الفن ليس علمًا، وهو متى صار حقيقة فقد جماله؛ ولهذا كانت الاستعارة من أروع ضروب البيان، والمصور الذي يدقق في كل خط ليأتي ما يرسمه طبق الأصل لهو رسام لا مصور فنان، وقد أجاد الأستاذ حمودة حين وقف عند كلمة ضاحك في قول المعري:
والبؤس في شعر نسيب عريضة الذي دل عليه الأستاذ روكس بن زايد العزيزي سببه جنوح بعض الشعراء المهجريين إلى الصوفية، وهي بضاعة قديمة يعرضونها اليوم بعد أن بارت سوقها، لا بد للأدب من بعض ومضات صوفية، أما أن تطغى عليه فأمر غير مستحب، أحسب أن المادية الأمريكية الطاغية هي التي أنمت شعور الشاعر نسيب عريضة بالبؤس الذي انحرف إليه، كما توجه أبو العتاهية إلى الزهد في زمن فاض فيه بحر الملذات.
وجلسة «مستقبل القصيدة في الأدب العربي» التي تحدث فيها الأساتذة العوضي الوكيل، وعثمان نويه، وهلال … كانت جلسة مدرسة، قالوا فيها: إن القصيدة قديمًا كانت وحدها أداة نشر، وإن الشعر العاطفي الإنساني يبقى، وتذمروا من أدعياء الأدب الذين يستأثرون بالقراء السطحيين، وزعموا أن الشاعر يقلد الحياة، فكلمة تقليد هنا تحط من قدر الشعر؛ لأن الشاعر الحق يخلق مرئياته خلقًا جديدًا حين تحبل بها ذاته وتلدها، وإلا فهو ليس بشاعر.
وارتأوا أخيرًا أن القصيدة ستبقى للتلحين، وتساءلوا عما إذا كان النثر يلحن كأنهم يجهلون أن عندنا نثرًا يلحن، بيد أن الشعر أقرب إلى التلحين وأسهل؛ لأن بحور الشعر ألحان …
وكانت الأحاديث في موسم العيدين تترى، وخيرها وأبلغها حديث الأستاذ ميخائيل نعيمة الذي عنوانه: «لمن التهاني؟»
وقال ميخائيل: فلو كنت من المتشائمين، ثم لم يعجبه أحد في هذه الدنيا من روحيين وزمنيين، فلا أدري كيف يكون التشاؤم إذا لم يكن في مثل هذا الكلام المختوم بتغضبات نبوية أشبه بما نطق به أرميا وأشعيا وعاموس. إن الأستاذ نعيمة يظهر باسمًا غير متشائم، ولكن ابتسامته حزينة.
وقال الأب ميشال حكيم في هذه المناسبة: إن البقايا المتهدمة كالأهرام، وغيرها لا تنطق بشيء، مع أن كل أثر في هذه الدنيا يكلمنا اعتبارًا. نعم إنها ليست بذات تعاليم إلهية كالمسيح، ولكنها تقول شيئًا عظيمًا، ولولا هذا لما قالوا في الإسكندر: وأنت اليوم أوعظ منك حيًّا.
وبهذه المناسبة، أي مناسبة العام الجديد، كان زجل الأستاذ وليم صعب حافلًا بالوطنية والعقيدة القومية، كان زجل وليم أقرب إلى اللغة الفصحى منه إلى العامية، وهو لو ابتعد عنها في زجله لكان ذلك أكمل، فالفصحى تبعد الزجل عن طبيعته.
والأستاذ نعيم مغبغب، وزير الأشغال العامة اللبناني، كان أبرز شخصيات الأسبوع فصاحة وبلاغة، كما كان وزيرًا مفلحًا حازمًا، وهكذا جمع بين القول والعمل، فأزال خوفنا من محل الرجال.
أعجبني قول الأستاذ أنور أحمد في قصته «الينبوع»: الجمهور طفل صغير عقله في أذنيه، القصة جيدة، وهو لو وقف حين أغمي على «هناء» لكان ختامها أبرع. عد علماء البديع براعة الاستهلال وحسن الختام من جمالات القصيدة، والقصة قصيدة منثورة.