النقد الخامس والثمانون
قالوا في أبي تمام: إنه في انتقائه شعر ديوان الحماسة أشعر منه في ديوانه، ولعل هذا القول يصدق في الآنسة سميرة عزام، فهي فيما تختار للترجمة من الأقاصيص تحسن كل الإحسان، أقول هذا ليس لأن أوسكار وايلد كاتب مشهور، فكل كاتب عنده غث وسمين، ولكن أقول هذا لأن الآنسة عزام تختار ما يلائم المستمع، فما كل قصة تأخذ بتلابيب المستمع ولا تدعه.
وإني لأعجب من كتاب القصص كيف يتهافتون على قصعة واحدة، ترى أليس في الحياة غير أحبها وأحبته؟! ينصب الكاتب على ما يظنه تحليلًا نفسانيًّا، ويروح يلحم ويسدي في فكرته حتى بدر الدين: كانت وكان، وكان هو الآخر، عشرات المرات حتى أمست قصته باردة بطيئة تسير على عكاكيز.
أما قصة «رغيف أسود»، وأحسبها لزهير مرزا إذا لم تخني أذني في تلك الساعة المشوشة، فقد كانت حسنة السير، وكان بطلها بارزًا كل البروز، يجاهد من أجل رغيف أسود ينتظره أبوه اللهفان، وأخيرًا ذهب البطل البر بأبيه شهيد الخشكار … القصة حسنة التعبير والتصوير، وكان في استطاعة الأستاذ لو صبر على «رغيفه» حتى يختمر أن يجود عبارتها أكثر، فلا يقول: أستدين من جيراني خبزًا. أما تذكر قول بشار لابن برمك:
وكذلك قال الأستاذ محمد بدر الدين: وكان هو الآخر، وهذا التعبير غلط، ولو استعمله كبار كتابنا، والوجه أن يقال: وكان هو أيضًا؛ لأن الضمير لا ينعت ولا ينعت به، إن تجويد عبارة القصة، وتصحيحها ضروري جدًّا؛ لأن الأقصوصة قطعة فنية كالقصيدة والمقالة وغيرهما.
الأستاذ نقولا بسترس كان طليعة الشعراء الجدد، ولكن الوظيفة شغلته كما شغلت غيره ممن كان يرجى أن يكونوا شعراء وأدباء كبارًا لو ثابروا، ونقولا قلما أحب الظهور في المنتديات والصحف، فشكرًا لمحطة الشرق الأدنى التي أسمعت الناس صوته الزجلي والشعري، كان نقولا في ضحى شاعريته يسابق سعيد عقل في شعره الجديد حتى خشي عليه سعيد منه، وها هو اليوم يسمعنا زجلًا في روضة الشعر كما فعل سعيد في الندوة اللبنانية. إن زجل الاثنين غير موفق؛ لأنهما شاعران فصيحان، وزجلهما مشوب بالفصحى، والفصحى ليست له، فلعلهما يحسنان صنعًا إذا تركا هذا اللون الشعري لميشال طراد، وأسعد سابا، ومبارك، وغيرهم.
أما شعر بسترس الفصيح فلا غبار عليه، وهو من الطراز الأول بين الشعر الجديد، فليكتف به، وما له وللزجل. وإذا كان ناصيف اليازجي، وإبراهيم اليازجي، وإبراهيم الحوراني قالوا الزجل قبلهما فقد قالاه على حقه.
ومن أصغى إلى الحفلة الزجلية التي أذيعت وداعًا واستقبالًا للعام الجديد يرى رأيي في زجل الأستاذ وليم صعب، فهو زجل مفصح، أو شعر مسكن، أنصتُّ إلى زجليته الهائية، فإذا بها عنترية النفس، ولكن ليس فيها ما في زجل حنينة ضاهر من نعومة الزجل وحنانه، كل ذلك لأن وليم أميل إلى الفصحى منه إلى العامية.
وكانت إلى الأستاذة أمينة السعيد ندوة بحثت الصداقة، وكيف نكسب الأصدقاء. إن اكتساب الأصدقاء ليس علمًا وإن كان العلم يفيد فيه، أظن أن هذا طبع، فالبعض مهما تزلف لا يستطيع كسب أحد، بينما نرى الآخر يكتسبهم بلا عناء. قالت السيدة أمينة: الأنانية أعدى أعداء الصداقة، وهذا عين الصواب.
وقال الدكتور علي الوردي في حديثه عن الهوى: وعين الرضا عن كل عيب كليلة، وقديمًا قيل: الحب يعمي ويصم، كما قال المتنبي: ولا رأي في الحب للعاقل. وخلص الدكتور أخيرًا إلى القول: إن خمسين بالمائة من عقود الزواج تنفصم قبل مرور خمس سنوات عليها، ورأى أن إطالة زمن الخطبة تحل هذه المشكلة، فهو يسمع من يستعجل فلا يقع في الكمين؟ فخير لخاتم الخطبة أن يرفض من أن تفصم سلسلة الزواج.
وكان حديث الأستاذ محمد فريد أبو حديد، ورفاقه الأساتذة كمال وأحمد حول المؤتمرات الأدبية التي انعقدت في الصيف الماضي، فرأوا أنها لم تفك شيئًا من مشاكلنا، فالمصطلحات العلمية لم تزل حيث هي، ولم نفز إلا بالتوصيات. إن التوصيات توصيات — يا أستاذ — والمؤتمرات في نظري تعقد ولا تحل.
ورأى أساتذة هذه الندوة أن المؤتمرين كانوا من الكلاسيكيين، وهم يريدون أن يشاركهم المحدثون؛ لعلهم يريدون أن يقولوا من الشيوخ، فاستبدلوا كلمة بكلمة، والله أعلم. قد تكون المؤتمرات العتيدة من الكلاسيكيين وغيرهم كما يتمنون، ولكنهم في كل حال لا يفضون مشاكلنا في اجتماعاتهم هذه.
وحدثنا الأستاذ محمد قرة علي عن الشعر المهجري فأفاد وأمتع، وله في هذا الموضوع كتاب يجدر الاطلاع عليه، ففيه مختارات رائعة مما تفرق من آثار هؤلاء الشعراء الذين كان لهم فضل المجدد.