النقد السادس والثمانون
منذ قرون قال الإمام العادل عمر بن الخطاب: الشعر ديوان العرب، ثم قال بعده الجاحظ ما معناه: إن الشعوب خلدت ذكرها ببنيان القصور والحصون، أما العرب فخلدوا مآثرهم في شعرهم. وكما تحدث الأستاذ بيبي عن وفرة الشعر في العراق، كذلك قيل فيما مضى عن الأندلس؛ أي إنه قلَّ منهم من لم يقل الشعر، ففي جلسة ندوة الشرق الأخيرة أنشد شاعران وشاعرة شعرًا له في السمع وقع طيب، فالآنسة أميرة نور الدين تنقاد لها القافية، وفي قولها عاطفة حارة لو انضم إليها خيال بعيد المدى لجاءت مجلِّية، وزميلاها الأستاذان خاشع الراوي وفؤاد عباس يجاريانها في هذا المضمار، وإن لم ينالا في تلك الجلسة ما نالته الآنسة من استحسان صارخ.
أما الشاعر رياض معلوف الذي كان بلبل «روضة الشعر»، فأجاد في أول مقطع أسمعناه إجادة تستحق التمجيد، أما المقطع الذي يقول فيه: فرحتَ وراحتْ عيوني معك، فتغلب فيه رائحة الزجل على رائحة الشعر، والمقطع الأخير الذي قال فيه: ولطفك فاق كل الناس لطفًا، لست أدري ماذا أقول فيه … فإذا كانت في الشطر الأسبق صورة تذكرنا بنثر بديع الزمان: وسافرت خلفها العيون، فهذا الشطر ليس فيه شيء، فهو إلى كلامنا الذي نتفاهم به أقرب منه إلى الشعر.
وهناك شاعر ثالث من شعراء الروضة لم ألتقط اسمه قال في «٢٠ / ١» شعرًا عتيق الطراز، جيد السبك، ولكنه مبتذل الفكرة كقوله: يغيب البدر إن ظهرت التي يتغزل بها. إن آفة شعرنا عبارته التقليدية، وفكرته المبتذلة.
وتحدث الأستاذ محمد سعيد في «ركن الأدب» عن القصة التي تشغل اليوم الحيز الأكبر من الأدب، وعزا تأخر قصتنا إلى أسباب محيطية، منها: الحجاب، مع أنه يساعد القصصي الملهم على الخلق، أما القصص المستوحاة من التاريخ التي أرشد الأستاذ القصصيين إليها، وحثهم على معالجتها فقد ذهب زمنها، فالقصة المرغوب فيها اليوم هي تلك التي تؤخذ عناصرها من الذات والمجتمع وتصورهما، لا يعني هذا أن الكتابة في التاريخ قصصيًّا لا تجوز، فالسر ليس في موضوع القصة، السر في إخراجها، فالسياق والحوار وتصوير الأبطال، وتحليل نفسيتهم، وإحياء الشخوص حتى تتحرك، هي من مقومات القصة الناجحة. وأخيرًا إن القصصي الموهوب لا يقال له اعمل كذا كذا، إنه يعمل ولا يدري لماذا يعمل.
وبعد، فأنا غير متشائم، أرى أن خطى أدبائنا سريعة، وقصتنا تسير إلى الأمام، ولكننا نحن كغيرنا من الشعوب لا نقيم وزنًا للحاضر، إننا كتلك النباتات «البطاطا والبصل» مثلًا، خير ما فيها تحت التراب، والتقليد يعمي أبصارنا، فلا نسمع بأديب أجنبي راجت كتبه حتى نحذو حذوه أو نسرقه.
وما زلنا نتكلم عن القصة، فلنقل كلمة عن أقاصيص هذا المنهاج، فقصة «غسالة الكهرباء» للآنسة سميرة عزام جيدة، وكان ختامها رائعًا كأنه قطة القلم، ليت الآنسة عزام تتجنب اللفظ العامي غير الفصيح؛ فإنه وإن أدى المعنى كاملًا فهو ينقص من قيمة الأقصوصة من جهة أخرى، إنها تجد إذا فتشت، ولكن العامي الفصيح لا يأتي عفوًا كالتعابير القديمة التي تنفثها أقلامنا، ولا نحس بها.
إن غسالة كهرباء سميرة عزام تشبه في غرضها قصة «تراكتور المحامي» أحمد سويد، وكلتاهما طريقتان جيدتان. أما قصة «الحجية» للسيد جعفر الجليلي، فلا أذكر أين سمعتها أو قرأتها، فكل ما أذكر هو أنني عرفتها معرفة وجه.
وكان حديث الشهر للأستاذ خليل الهنداوي، فتحت عن النشاط الأدبي في العواصم العربية، وأعجبني منه تعليقه اللبق على محاضرة أحد العلماء الأفاضل الذي زعم أن اللغة العربية أصل جميع اللغات، فقال الهنداوي: إن الشيخ مدفوع بقوميته لا برهانه.
وأفاض الدكتور حكمت هاشم في تعريف المدنية والحضارة، فنفى أن تكون البحبوحة المادية مقياسًا للمدنية والحضارة، فالمدنية توازن بين المادة والروح، وإذا طغت المادة كان الانهيار. ثم عرج على جورج ديهامل الذي حدد المدنية على أنها نظام لا هرج ومرج.
الدكتور حكمت هاشم مفكر رصين، عادل في أحكامه، وهو يتناول غالبًا المواضيع البكر التي قلما تعالج.
أما سلسلة أحاديث المستشرق تشارلز بكنجهام، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مانشستر في بريطانيا، ففيها الكثير من الصراحة والجرأة والإنصاف مما لا نقع على مثله إلا في هذه الأحاديث التي لا مواربة فيها ولا لبس، ولا محاباة؛ فهو يوضح بكل جلاء ما أدى به إليه تفكيره حين يتكلم عن أعجوبة الفتح التي لم يمر بمثلها التاريخ في مراحله العديدة، كما أرخ انتشار اللغة العربية في الغرب تاريخًا دقيقًا، وكيف نظر مفكرو الغرب بعد تعلمها إلى الثقافة العربية واحترموها، ثم كيف كانت لغة الضاد لغة الفلسفة والعلوم، فحفظت الثقافة العامة زمنًا ثم سلمتها إلى الأجيال المتتابعة.
ونحن نشكر أمانة هؤلاء العلماء الذين كانوا قيمين على كنوزنا الثقافية، فحفظوها ولم يفرِّطوا بها، وها هم يتولون نشرها لتنتفع بها الإنسانية.
وتحدث الأستاذ جورج هارون عن شاعر فرنسا فيكتور هيغو، فدرسه دراسة وجيزة ممتعة، فليته يخص أحد شعراء العرب، أو أحد أدبائهم، بدراسة قيمة كهذه. إن أكثر ما نسمع من أحاديث عن أدبائنا في ذكراهم ليس له هذا العمق والشمول، ولعل قلة المصادر والدراسات والنقد هي التي تحول دون ذلك.