النقد السابع والثمانون
عن «الضمان الجماعي في لبنان» تحدث الأستاذ رشيد شقير الباحث المختص بشئون العمال أن هذا الضمان صغير السن، ولكنه عندنا ما يزال طفلًا يحبو، فالتفكر بالعجز والفقر رهيب جدًّا. تصور أن أحدهما يرعد المفاصل، فكيف بهما إذا اجتمعا؟ ففي نظري أن الضمان الجماعي هو أقدس عمل تعمله الحكومات، وأحسب أن هذا الركن في محطة الشرق الأدنى هو أحد الأركان الخطيرة، وأجلُّها فائدة لمن نزلت شمسهم عن ميزانها.
وكان الحديث عن الفتوة العربية للأساتذة رامي والغزالي وأباظة، فاستعرضوا في جلستهم الخيل والرماح والسيوف والنبال استعراضًا، فصح فيهم ما قيل: الشعر ديوان العرب، لقد استنطقوا الشعراء منذ أقدم العصور فوجدوهم يعتزون بالفتوة، ويباهون بها، وكلمة فتوة لا تزال على ألسنتنا اليوم نعتز بها، فإذا مدحنا رجلًا جمع الشجاعة والكرم قلنا في العامية: «فلان فتى»، فكأننا جمعنا فيه مكارم الأخلاق كلها، ولعل عوامنا إنما يعنون الكرم قبل كل شيء؛ لأن الكريم لا يكون إلا شجاعًا، قال لي والدي مرة: الشجاع هو الذي لا يكون عنده إلا عشاء ليلة، ويقدمه للآخرين، لا الذي يضرب ويقتل، فليت جميع الطلاب أصغوا إلى هذا المعرض الأدبي ليعرفوا متى عرض عليهم بحث أدبي من هذا النوع كيف يعالجونه، ويلمون بأطرافه من جميع نواحيه.
وفي حديث «الصحافة صانعة الأدب الحديث» قال الدكتور عبد اللطيف حمزة: الصحافة أدب واقعي يعنى فيه الصحافي بغيره لا بنفسه، وأظن أن الشاعر القبلي، وهو صحافي ذلك الزمان، كان يعني بغيره وبذاته معًا. إن الصحافة هي أساس الأدب الحديث، فالأمر كذلك ليس عندنا فقط، بل في كل أُمة من الأمم الحديثة، فهؤلاء مؤرخو الأدب في كل أُمة يرون أن الصحافة أقوى العوامل التي مكنت للأدب في الأذهان، وخلقت فيه فنونًا جديدة كانت لها غذاء ووسيلة للانتشار، فكل كتَّاب العصر الحديث مدينون للصحافة إن لم يكونوا هم صحافيين، وللصحافة المثلى فضل على اللغة عظيم؛ لأنها حضَّرتها وطوَّرتها، وحلت محل المجامع عندنا، فكم من لفظة وضعها الصحافيون القدامى، ولولاهم ولولا صحفهم لم تكن.
ولا ننسى الصحف الهوائية، أعني الإذاعات، فهذه أيضًا — وإن كانت حديثة العهد — قد وجهت الأدباء في سبل جديدة ما كانوا يسيرون فيها لولا الإذاعة. إن أدب المقالة ضعف شأنه في صحف أيامنا، ولكن الإذاعة تعنى به عناية الصحفيين القدماء بمقالتهم الافتتاحية.
والقصة الصغيرة التي وصلت إلى ما وصلت إليه من التقدم قد أبصرت النور في الصحافة، وأفسحت لها الإذاعة في مجال برامجها، فمشت قدمًا. لقد عالج الدكتور عبد اللطيف حمزة موضوعًا يكاد يكون جديدًا، وليته يعيد الكرة فيذكر الجيل الحاضر بمن غبروا، وكان لهم أكبر الفضل؛ لأنهم جاهدوا وتعبوا كثيرًا، ولولاهم لما بلغت صحافتنا هذه المرتبة الخطيرة.
إن ذاك الرعيل المنسي يستحق أن يذكر الناس به، في الصحف وفي الإذاعات والكتب؛ لأنهم بناة أدبنا الحاضر الذي نشأ صحفيًّا كما نشأت كل آداب الأمم الحديثة.
وفي «روضة الشعر» أنشد الأستاذ سليم الزركلي قصيدة عنوانها «حيرة»، فكانت شعرًا شديد الأسر مليئًا بالموسيقى، وكذلك القصيدة الرائية، وهي من بحر الطويل، وهذه الأخيرة غنية ببلاغتها أكثر منها في معانيها وصورها، وكم تمنيت لو سمح لي الجو المشوش أن أسمع قصيدته «الخيال المغامر» لأرى مقدار خياله فيها، ولكني كنت عند سماعها في جهد جهيد، بل قل كنت كمن يصارع الجو.
وفي البريد الأدبي سمعت للأستاذ بشير جحا مقطوعات شتى من الشعر، وقد سمعته يقول عشعش، وهي عشش، وقال في قصيدة: ولكننا رغم … عشيقين، وهي عشيقان، أما الشعر فليس من الطراز العالي، وهذا نموذج منه قال:
كما قال — أطال الله عمره — في قافية بيت: وأبكي علي المراثيا …
أما السيد رزوق إبراهيم رزوق، فأذكر أنني سمعت له قديمًا شعرًا أعجبني أكثر مما سمعت، ولعل الأستاذ رزوق أراد أن يبني شرفات وخرجات في عمارته الشعرية، فلم يؤثر كثيرًا في الأذن، وربما كان مثل هذا الشعر يصلح للقراءة أكثر منه للإنشاد الذي يعتمد على الإيقاع. وعلى كلٍّ لم يبرح السيد رزوق جوه الشعري رغم تفكك قوافيه.
وكان للكاتب حديث وصف فيه الأستاذ عيسى ميخائيل سابا ما يعانيه المؤلف ليخرج كتابًا يتمتع به القارئ غير ذاكر ما تقتضيه المؤلَّفات من تعب في سبيل إخراجها. وعتب أخيرًا على أغنيائها الذين يتنافسون في اقتناء السيارات وغيرها، ولا يقتنون كتابًا. إن الأستاذ سابا مؤلف وله كتب، وفيه يصح قول شاعرنا: لا يعرف الوجد إلا من يكابده.