النقد الثامن والثمانون
الأستاذ راجي الراعي كاتب من الطراز الأول، ومثقف واسع الثقافة عميقها، لا ينقطع عن التفكير في المسائل الكبرى مثل: مشكلة الحياة التي حدثنا عنها، أعجبه رأي الدكتور موريس فرنيه في كتاب «مشكلة الحياة»؛ إذ قسم الطاقة الحيوية إلى ثلاث دوائر، الجسد والروح والنفس، فالروح ترى في المرئيات، والنفس ترى في ذاتها، وتتصل بالخالق، فالمنطقة السفلى والوسطى هي الروح، والعليا هي النفس رفيقة الله، تعطي رفيقتيها الحياة، ولا تأخذ منها شيئًا، ثم خلص إلى القول أن معضلة الحياة لا تزال مجهولة، وهي طاقة حيوية تمارس واجباتها في الجسد. والأستاذ مطمئن إلى تفريق فرنيه بين الروح والنفس.
إنها معضلة لا تحل، وستتعب الفكر والمفكرين إلى ما شاء الله، فلا راحة إلا في الإيمان، وهنيئًا لمن له منه مقدار حبة خردل. إن العقل لا يحل هذه المشكلة العظمى، فلنفتش عن غيره؛ فلعلنا نجده، ونجد عنده حل مشكلتنا، فلننتظر أصحاب الصحون الطائرة، والآتي قريب؛ فقد يكونون أوسع مدارك منا كما قيل فيهم.
وتحدث الأستاذ عبد الحميد ياسين عن التربية البناءة، فذكرني بقول أساطينها: إن الفتى تنور يحمى لا وعاء يملأ، وإن التربية صقل لإظهار العرق الأصيل في الشخصية لا طلاء ودهان، فعلينا أن نربي أولادنا تربية مستمدة عناصرها من عرقنا، وإذ ذاك نبلغ الهدف من التعليم. كان حديث الأستاذ ياسين ممتعًا ومفيدًا، وحبذا لو عمل به.
وكنت أتوقع من الدكتورة زاهد حميد باشا أن تتناول في حديث الشهر أشياء من ماجريات الشهر، فإذا بها تتناول ما يقع تحت غير هذا العنوان، ولكنها أجادت فيما بحثت، وليس على الكريم شرط كما يقولون.
أما الدكتور نقولا زيادة فلم يخرج — وتلك عادته دائمًا — من دائرة موضوعه، فحدثنا عن محاضرة الأستاذ فؤاد كنعان في الندوة اللبنانية التي تركت دويًّا في الأوساط الأدبية. إن الدكتور زيادة من أمهر المناقشين عندنا، وقد ناقش الأستاذ كنعان كما ناقش عدة نقاط من محاضرة السيد عنبرة سلام الخالدي، وأجاب عنها جوابًا حكيمًا. أما الطائفية، وهي من النقاط الرئيسية في محاضرة السيدة الكريمة، فلها عندي دواء، وهو ألا نذكرها أبدًأ في محاضراتنا وأحاديثنا إذا شئنا أن نقضي عليها.
وفي ركن الكتب الحديثة كان للدكتور صفاء خلوصي نصيب من الكلام، فتحدث عن أقاصيص الأستاذ جعفر الخليلي، وهي مجموعة تتضمن ستًّا وعشرين أقصوصة، فحلل أكثرها، وقرظها تقريظًا جميلًا، الدكتور جميل صفاء قاص، وكنت خشيت أن يقصر حديثه على الثناء، فإذا به لم يحرم المؤلف والمستمع من النقد العادل، وهكذا يكون النظر في الكتب.
وكان حديث الأستاذ سليم الزركلي، وعنوانه: «عقدة نفسية»، مكتوبًا بفصاحة وبلاغة منمق العبارة، مفيدًا لمن يراقب نفسه ويدرسها، وفي بريدنا الأدبي ورد حديث عن القصة، وقد تكرر هذا البحث في هذه الآونة، ومن هذه المحطة. إن بحث هذا الموضوع لا يخلق القصصي المنشود، لا يخلق القصصي إلا التجارب والثبات، فخير للشباب أن يحاولوا كتابة قصة واحدة من أن يتعلموا أصول كتابة القصة، فليطالعوا كبار كتَّاب القصة ويتأملوا؛ فذلك شحذ لأذهانهم، وإظهار لمواهبهم، إن كان ثمة موهبة.
وفي هذا الركن أيضًا تحدث الأستاذ إبراهيم مطر عن القلق، وقال: إن النوم هو الراحة، فذكرني بقول فيكتور هيغو: النوم موت مؤقت. وقال المتحدث: إن عدم الإيمان بالله هو من أسباب القلق، ولا أدري كيف يكون هذا؟! أعرف أناسًا غير مؤمنين وينامون على فرد جنب من المساء إلى الصبح.
وفي روضة الشعر أحيا لنا الأستاذ إبراهيم الوائيلي عهد الإنشاد، ولا بدع؛ فهو عربي أصيل كما تنبئنا نسبته، أنشدنا فأطربنا، وكانت قصيدته السينية من الشعر العريق، ألفاظها منتقاة متقارنة قرانًا مباركًا، تفوح منها رائحة العروبة الذكية، وهو لو لم يطلق سراح القافية في آخرها لقلت إنه لم يفارق عمود الشعر.
وكانت جلسة ندوة الشرق الأدنى في بيروت، وفيها بحث الدكتور علي سعد، والأستاذان أحمد أبو سعد ومحمد عيتاني موضوع اللغة العربية والحياة، وهل تستطيع أن تعبر عن أفكارنا وحاجاتنا؟ الموضوع يشغل بال الأدباء اليوم، وإني لأعجب كيف يكون التراجمة للسريان في العصر العباسي أقدر من مجامعنا العلمية اليوم؟! أيطوع السريان لغتنا ويخضعونها للتأدية عن أفكارهم، ونعجز نحن؟ لقد كانت مهمتهم أشق من مهمتنا، ومع ذلك لم يتراجعوا، ولم يتساءلوا، بل عملوا، فما علينا إلا أن نعمل.
العامية بعجرها وبجرها لا تصلح، كما أن مومياءات الفصحى قد فارقتها الحياة، واللفظة الميتة كالجثة، فكيف نرجو للكلام حياة إذا عبرنا بها عنه، فلنكن حكماء، ففي مكنتنا أن نسلك إلى غايتنا طريقًا وسطًا، أي في استعمال العامي الفصيح الذي انتقاه لنا العوام.