النقد التاسع والثمانون
كان القدامى من شعراء ونقاد يقيمون للتعبير أكبر وزن، وكانوا يقولون: هذه لفظة شعرية، وهذه غير شعرية، وكان على من يقول الشعر أن يتحاشى كتابة النثر؛ لئلا يتأثر أسلوبه بتعبيره، ولهذا ذكر ابن خلدون في مقدمته أن أحد الأيمة قال: هذا شعر علماء، حين روي له هذا البيت:
ولما قيل له: وكيف عرفت؟ قال: من قوله ما الفرق؛ لأن هذا من تعابيرهم.
وكانوا يجلُّون العلماء عن أن يقولوا الشعر، وفي ذلك قال أبو حنيفة:
ومع ذلك كان من القضاة شعراء وإن لم يبلغوا القمة، وهذا ما أفاض فيه الأستاذ سليمان محمد أباظة، والأستاذ الغزالي في الجلسة التي كان موضوعها: القضاء والشعر والأدب، رحم الله السلف من باحثين ونقاد، فقد ضيقوا على الشعراء كثيرًا، وحطوا من قدر الشعر، وجنوا على هذا الفن إذ رفعوا للشعر عمودًا، وعلى قياس هذا العمود جعلوا المتنبي والمعري ساقطين عن رتبة الشعراء.
روى الأستاذ أباظة ورفيقاه شعرًا طريفًا لقضاة عديدين، ولولا هذا التزمت القديم لكان لنا شعر كثير ينبع من جميع الطبقات، ولكن الأدب كالأزياء يتغير ويتبدل في كل زمن، ورحم الله من قال: كما كنا تكونونا.
وهذا الأستاذ محمد سعيد العريان يجاري سواه ممن يقولون اليوم بتوجيه الأديب، تحدث عن أدبنا القومي من شعر ومنثور، وبعد أن وضع للأدب عمودًا جديدًا راح يتحدث عن الأبراج العاجية، وعن الفن للفن، ويتساءل: أين الشاعر القومي، والكاتب القومي، والقاص القومي؟ وكان الجواب: لا أرى أحدًا، ثم قال: إنهم آحاد بين آلاف.
أنا لا أعتقد أنه يوجد أدب لا غاية قومية له، فكما أن الأديب لا يخرج من ذاته، كذلك لا يخرج من مجتمعه، فالمجتمع هو الينبوع الذي تستقي منه الأقلام، وكل أدب فيه توجيه وهو لا يبرح دائرة الحياة مهما بدا لنا مبتعدًا عنها، أما إذا كنا نريد الأدب وعظًا سافرًا فهذا لا يكون له حظ كبير من الفن، ويصبح من عمل الصحفي لا الأديب الذي تفتش سفينته دائمًا عن منارة الفن.
وهنالك فرق بين الأدب الموجه، فليوجهنا الأديب مخلصًا شرط ألا يكون هو موجَّهًا، فلا نفصِّل للأديب ثوبًا يلبسه؛ لأنه إذا كان لا يحسن تفصيل ثوبه فهو ليس بأديب.
قال الأستاذ العريان: ليس عندنا أدباء قوميون، بل محليون، وأنا أظن أن معظم أدباء العالم الكبار هم محليون، فهل خرج كرامازوف، وغوغول، وفلوبير من محيطهم في روائعهم الخالدة؟ قد يكون كتَّابنا محليين، ولكن هذه المحلية تتألف منها مجموعة قومية موحدة متى شئنا، إن الذي يبقى من آثار الأدباء هو الذي يلامس الحياة، ولا أخال أن أحدًا من الكتاب والشعراء لا يلامس الحياة ولو بمقدار.
وتحدث الدكتور علي الوردي عن طبيعة العقل البشري، فخلص إلى القول: إن هذا الإنسي وحشي بالطبع، مدني بالتطبع. ليت الدكتور، وهو ابن هذا العصر كان حدثنا عن غير طفل ابن طفيل، وهذا ما ينتظر من عالم يحمل لقب دكتور، لقد تقدم درس طبيعة العقل البشري أشواطًا حتى صارت حكاية ابن طفيل من طفيليات العلم.
وفي روضة الشعر كان شعر الشيخ علي الصغير من الطراز الكلاسيكي معنى ومبنى، شديد الأسر، حسن الرصف، وقد علق بذاكرتي قوله: متى كان بين القلب والبحر مضمار. أجل، إن القلب ضعيف، ولكنه يجاري الدنيا لا البحر وحده، وقد كانت قصيدة الشيخ علي الأخيرة أروع ما قال، وكنت أود أن ألتقط منها شيئًا، ولكن رداءة الجو حالت دون ما تمنيت.
وفي بريدنا الأدبي ازدحم أربعة شعراء في ذلك المضيق، وقد بدا لي أن عنوان قصيدة السيد إلياس عبدو، «الواحة الضائعة» أشعر من شعره انتظرت الكثير من هذا العنوان، ولكن الكتاب لم يعرف من عنوانه هذه المرة، فالخيال ضعيف، والتعبير لا شاعرية فيه.
أما حيرة الشاعر الأستاذ خالد نصرت فأجود من قصيدة «الشاعر» لمصباح العلي، وكذلك قصيدة الأستاذ شاكر محمود العبيدي، فإنها تأتي قبل قصيدة خالد تعبيرًا، ولكن خالد أبعد مدى الخيال، فليت هؤلاء الشعراء يزرعون في أرض بكر، فكل مواضيعهم قد سبق لغيرهم أن تعاوروها، وما تركوا لهم ما يقال فيها، فما أكثر من قال في الشاعر وحيرته، والواحة وما توحي.
ومن الأقاصيص — وقد قلَّت — كان لنا «قصة السقلاوي» للشاعر الأستاذ نقولا بسترس، وهي مكتوبة بأسلوب عودناه الأستاذ بسترس في شعره ونثره، ولا بدع أن أفاض في وصف ذكاء هذا الجواد، فالخيل تستحق هذا التقدير؛ لأنها كما جاء في الأثر: معقود بنواصيها الخير.