النقد التاسع
تفكر محطة الشرق الأدنى دائمًا بإثارة شئون الساعة وشجونها، فما اقترحت على الكتاب بحث مسئولية الكاتب حتى تخطت إلى موضوع «الأدب وواجبات الحكومة»، فعالجه كاتبان: الدكتور عمر شخاشيرو، والدكتور أمجد طرابلسي، شكا الأول قلة الإنتاج الأدبي؛ لأنه لم ير مثل ألف ليلة وليلة، بل رأى الأمة محتاجة إلى شاعر يبكي عنها، ويبارك نهضتها، أما البكاء عنها فما أرى الشاعر من النوائح ليبكي عن أهل البيت … وقد شبعنا نواحًا وبكاء، فنحن إلى شاعر ينخينا أحوج منا إلى من يشجينا ويبكينا … ثم رأى أخيرًا أن تأخر الأدب سببه قلة قراء، وتغاضي حكومات، وضرب مثلًا على النشاط الفني في سوريا حين وضعت حكومتها جوائز للرسم، فبرزت المواهب الكامنة، وقال أيضًا: إن الجامعة السورية طبعت اثنين وأربعين كتابًا، فهب الأدباء من سباتهم، قلت: هكذا فلتكن معاهد الثقافة وإلا فلا لا.
أما زميله الدكتور طرابلسي فراح يسأل عن القصة، والرواية، والتمثيلية، والملحمة، والشعر الوجداني الفني، فوفى البحث حقه، وخلص أخيرًا إلى أن الأزمة أزمة قراء، ورأى أن على الحكومة تعليم الناس ليقرءوا، وأن عليها أن تشجع دور النشر، وتوجه الإنتاج الأدبي بإرصاد الجوائز، فيشحذ الموهبون قرائحهم.
أجل، إن اللها تفتح اللهى، ولكن الأديب الأصيل لا يكتب إلا استجابة لمجاعة روحية، ولست أرى المال يخلق الروائع المرجوة في الأدب، وإن كنت أرى جميع حكوماتنا لا تكترث إلا للنافذين في ساحة العمل لتداوي الحاضر بالحاضر، وماذا يهمها أناس لا يهشون ولا ينشون؟ فمتى تعاضد الأدباء شعرت الحكومة بوجودهم، ولكن أصحابنا مصابون بمرض النوم تصح فيهم آية أهل الكهف.
وتحدث الشاعر القومي وليم صعب عن الشعر القومي، وقال: إن إلياس الفرَّان كان شاعرًا قوميًّا عندما كان الشعراء الفصحاء يمدحون السلاطين، يظهر أن وليم صعب قرأ صفحة واحدة من شعر الفرَّان، ونسي أن يقرأ الصفحة الثانية، فماذا كان يعمل إلياس الفرَّان في تلك الليالي التي كان يحييها في ذاك القصر، وتلك الدار؟ أليس هو القائل:
أنا من الذين قدروا، ويقدرون الشعر القومي، وربما أفضل جيده على وسط الشعر الفصيح ورديئة، وأرى أن الزجل أقرب إلى القلب والواقع، ولكنه لم يعجبني من الأستاذ وليم صعب هذا التحدي الصارخ للشعر الفصيح، وتحدث المونسنيور نعمة السمعاني عن الله في البيعة والمجتمع، فأحسن التعليل والتحليل، وتحدث الدكتور خليل الجر في باب «الفكر الغربي»، فتطرق إلى الوجودية، وإثبات وجود الله، وكان بحثه جيدًا، وليس لي ما أقول غير أن كلمة شخصاني كريهة، فالجماعة قالوا مثلًا: روحاني ونفساني، ولم يقولوا شخصاني وفكراني وعقلاني، قد يقال: وإذا لم يقولوا فما علينا نحن لو قلنا؟ قلت: قولوا: ولكن لا تنسوا أنهم قالوا رجل، ولم يقولوا رجلة، وقالوا: جمل ولم يقولوا جملة، وقالوا: بعير ولم يقولوا بعيرة، وقالوا: كبش وأسد، ولم يقولوا كبشة وأسدة، بل نعجة ولبؤة، وقالوا: روحاني ولم يقولوا شخصاني، وقال الجاهظ أخيرًا: «وزعم رؤبة أنه يقال: ضبع وضبعة، وثعلب وثعلبة، وأصحابنا لا يقولون هذا، ويضحكون ممن يقولون ضبعة عرجاء.» فهل يكون الأعراب أتم ذوقًا منا؟
وكانت دراسة السيدة سلمى صائغ دراسة شخصية رومانتيكية أكثر منها دراسة أدبية لفليكس فارس، حتى سمعتها تقول: بعينين خضراوين، أما كيف تكون العينان خضراوين في غير عين الشاعر فلا أدري!
وفي الجلسة الأدبية العراقية جال الدكتور جواد ورفاقه في موضوع «هل يحتاج النقد إلى مقاييس جديدة»، فأجادوا بحث النقد القديم، ولم يقولوا شيئًا في الموضوع المقترح.
أما في باب العلم، فعلمنا من باب ميادين العلم والثقافة أن الزيت والماء صارا يمتزجان، فعسى أن يمتزج بعد هذا العقل والسلام مثلًا، وفي باب «العلم في بيتك» كان حديث الآنسة ليلى شاهين مفيدًا وطليًّا. حقًّا إن مثل هذه الأحاديث وغيرها لتستحق لقلب «المدرسة في البيت»، فمن يصغ إليها جميعًا يلم من كل فن بطرف، فلا ينتهي من موضوع حتى يبدأ بآخر مثل: سيكولوجية الطفل للآنسة ليلى اللبابيدي، كان هذا الموضوع طريفًا، والإلقاء مضبوطًا وأنيقًا، فليت النساء والرجال يصغون إلى مثل هذه المواضيع القيمة فيتعلمون «على الماشي»، ويفكرون بحل مشكلة «الجمع بين التعليم والزواج» مع المتحدثات.
ما سمعنا شعرًا في هذين الأسبوعين غير قصيدة «بعلبك» لأمجد الطرابلسي، ولكن دكتورنا في بحثه كان أشعر منه في قصيدته.
أما ندوة الشرق الأدنى، فقد كانت جلستها الأردنية صاخبة جدًّا حتى ضاع عليَّ أكثر كلامهم، مع أني كنت أحب أن أسمع صوت تلميذي نسيم نصر، وأخبار نقد صحيفته، كما أصغيت إلى شخصية الأسبوع، فسمعت صوت رفيق المدرسة الأستاذ محمد إلياس نمور، ولم أتعجب من وضعه النقاط على الحروف؛ لأني لم أنسه، فشكرًا للأستاذ اللوزي الذي جمعنا بعد ٤٦ سنة، ولو بالصوت.
أما أقاصيص الأسبوع فثلاث: اثنتان للأستاذ باسم الجسر، والدكتور صفاء خلوصي، والثالثة للآنسة رشيقة العمري. فلندع النقد الفني هذه المرة فقد أكثرنا منه، ونقل كلمة في العبارة. سمعت هذه الجملة: فماذا عساها ملاقية هناك، وهي لا عامية ولا فصيحة، وشر الكلام ما كان كذلك. وقيل: لم تكن لوحدها، وهذه اللام تذكرني بما كنا نعلقه بذنب الهر ونفلته، وقيل أيضًا: تمالك نفسه، وهي إما ملك نفسه، أو تمالك بدون النفس.