جمال الدين الأفغاني
اتفق من ترجموا للسيد جمال الدين على أن اسمه: محمد جمال الدين، واسم أبيه صفدر، وقد حرَّف هذا الاسمَ مَن كتبوا ترجمته بالعربية فقالوا: صفتر.
وصفدر لفظ فارسي من ألقاب الإِمام علي، مركَّب من كلمة «صف» العربية، و«در» وصف من فعل دريدان الفارسي بمعنى افترس أو اقتحم.
ولم يختلفوا في أن جمال الدين ولد سنة ١٢٥٤ﻫ/١٨٣٨-١٨٣٩م.
وهل هو بعد ذلك وُلد في أسعد آباد، قرية من قرى كير، من أعمال كابل، من بيت عظيم في بلاد الأفغان، حنفي المذهب، ينتمي نسبه إلى السَّيِّد علي الترمذي المُحَدث المشهور، ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب، وفي كابل تَلَقَّى علومه واستكمل الغاية من دروسه؟
أم هو قد وُلد في أسد آباد قرب همدان من أعمال فارس، وتعلم في مدينة قزوين ومدينة طهران، ثم سافر إلى الأفغان، وليس أفغاني الجنس كما يزعم أهل السنة والجماعة؟
أم أن والده من أهالي مازنداران، إحدى ولايات إيران، وكان ضابطًا في الجيش الإيراني أوفدتْه حكومتُه إلى بلاد الأفغان لمهمة، فطابتْ له السُّكنى هناك وتزوج، ووُلد له جمال الدين في إيران، وحمله معه صغيرًا؟
هذا خلافٌ لا سبيل إلى تمحيصه؛ فإن ما يتعلق بنشأة السَّيِّد جمال الدين وحياته قبل اتصال الشيخ محمد عبده به سنة ١٨٧١م هو — على قلة مصادره — محاطٌ بغموض واضطراب — كما قال الأستاذ براون.
ويدل على هذا قول الشيخ محمد عبده في فاتحة تعريبه لرسالة الرَّد على الدَّهْريِّين: «يحملني على ذكر شيء من سيرة هذا الرجل الفاضل ما رأيناه من تخالف النَّاس في أمره، وتباعُد ما بينهم في معرفة حاله، وتبايُن صوره في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقةٌ كليةٌ تجلتْ في كل ذهن بما يلائمه، أو قوةٌ روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله.»
- (١)
أن يكون من السَّهل عليه الظهور بمظهر السُّنِّي لا الشِّيعِي.
- (٢)
أن يستطيع الخلاص من رَقابة الحكومة الإيرانية لرعاياها في الخارج.
وقد عُني والده بتربيته، فأيدت العناية به قوة فطرته.
وتلقَّى معارفَ جمة بين علوم عربية وعلوم شرعية وعلوم عقلية وفنون رياضية، ودرس نظريات الطب والتشريح.
أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين، على الطَّرِيقة المعروفة في تلك البلاد، وعلى ما في الكُتُب الإِسلامية المشهورة.
بدأ تعلُّمه في السنة الثامنة من عمره، واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة.
ويقول جورج كوتشي: إن جمال الدين قد استرعى الأنظار منذ حداثة السن؛ بذكائه النادر، وميله الواضح إلى كل ما له صلة بالفنون العسكرية.
ولما أتم دروسه سافر إلى الهند، وأقام سنة تعلم في خلالها شيئًا من العلوم الأوروبية وأساليبها.
وقصد بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج، فقضى نحو عام يتنقَّل في بلاد العرب حتى وافى مكة سنة ١٢٧٣ﻫ/١٨٥٧م.
وعاد إلى بلاد الأفغان فانتظمَ في خدمة الأمير دست محمد خان، وعَلَتْ منزلتُه عنده، ورافقه في بعض غزواته، ولَمَّا مات الأميرُ انحاز جمال الدين إلى الأمير محمد أعظم خان، الذي أثار حربًا عوانًا على شير علي، وهو أخوه أصغر منه سنًّا، تولى عرش الأفغان بتأييد الإنجليز.
وكان جمال الدين زعيم القُوَّاد في جيش محمد أعظم خان، فميزته كفاية باهرة، ولكن الأمير أوجس في نفسه خيفة أن يساميه إلى العرش؛ فجعل لا يصغي إلى نصائحه، وعلى أثر الهزيمة شَخَصَا معًا إلى الهند، وكانت الهندُ يومئذٍ تفور بالفتن، وخشيت الحكومة الإنجليزية أن يتصل الثوار بالسَّيِّد جمال الدين؛ فردتْه من حيث جاء.
ولم يأمن الأمير شير على مقام السَّيِّد في الأفغان، وأحسَّ السَّيِّد ما توسوس به نفس الأمير؛ فاستأذن في الخروج للحج وارتحل من طريق الهند مع خادمه أبي تراب.
ولما بلغ التخوم الهندية تلقتْه حكومتُها بحفاوة وإجلال، ولكنها لم تسمح له بطُول المكث، ولم تأذن في لقائه إلا على عين من رجالها، وبعد نحو شهر سَيَّرَته من سواحل الهند في بعض مراكبها على نفقتها إلى السويس، فجاء مصر وأقام بها أربعين يومًا، تردد في خلالها على الجامع الأَزْهَر، وخالط كثيرين من طلبة العلم السوريين، وألقى عليهم محاضرات في مسكنه.
ثم تحول عن الحجاز عزمه، وصرف عنانه إلى الأستانة سنة ١٢٨٧ﻫ/١٨٧٠م، وكانت سبقته شهرته الذائعة فحومت إليه — لفضله — قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، واتصل برجال الأدب والعلم.
وبعد ستة أشهر سُمي عضوًا في مجلس المعارف برعاية عالي باشا الصدر الأعظم، فأدى حق الاستقامة والنصح في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه عليها رفقاؤه، ومن تلك الطرق ما أحفظ عليه قلب شيخ الإِسلام لذلك العهد حسن أفندي فهمي؛ لأنها كانت تمس شيئًا من رزقه، وأضمر له السوء وأرصد له العنت، حتى كان رمضان سنة ١٢٨٧ﻫ فرغب إلى السَّيِّد مدير دار الفنون أن يُلقي خطابًا في الحث على الصناعات، واحتشد النَّاس لسماع المحاضرة في تلك الدار من جميع الطبقات العالية، وكان فيما ذكره السَّيِّد تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حيٍّ، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن، ثم قال: هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة.
هنالك راح شيخ الإِسلام يقيم من الحق باطلًا؛ ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن جمال الدين يزعم أن النبوة صنعةٌ، محتجًّا بأنه ذكرها في خطاب يتعلق بالصناعات، ثم أوعز إلى الوُعَّاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفًا بالتفنيد والتبديد، وأكثرت الجرائد من الخوض في المسألة، وانقسم النَّاس فيها شيعًا.
وأشار بعضُ أصحاب السَّيِّد عليه بأنْ يغضي على الكريهة ويلزم السكون، والزمنُ كفيلٌ باضمحلال هذه الإشاعة وتلاشي أثرها، ولكن جمال الدين كان عصبيًّا دمويًّا، في مزاجه حدةٌ، فلج في مخاصمة شيخ الإِسلام وطلب محاكمتَه، حتى صدر الأمر إليه بالجلاء عن الأستانة ريثما تسكن الخواطر، وحمله بعضُ من كان معه على أن يهبط مصر، فجاءها أول سنة ١٢٨٨ﻫ/١٨٧١م وكان ذلك في زمن إسماعيل، واستَمالتْه مساعي رياض باشا للمقام؛ حيث لم يكن ينويه، وأجرت عليه الحكومة المصرية راتبًا سنويًّا مقداره ١٢٠ جنيهًا نزلًا، أكرمتْه به لا في مقابلة عمل.
استقرَّ قرار الرجل في وادي النيل بعد أسفار بعيدة، ومشاغلَ عديدة، في حياة الميادين والكفاح.
ولم تكن كل هذه الشواغل لِتعوق جمال الدين عن متابعة الدراسة العلمية العالية التي كان له إليها نزوع شديد، ولقد كان ينتقل في البلاد مصحوبًا بكتبه، وكان قارئًا نهمًا لا يشبع، عرف في شبابه كل المؤلفات القديمة في الفارسية والعربية، ولم يكن يجهل أي كتاب من الكُتُب الحديثة تُرجم إلى لغة شرقية.
لم يكن جمال الدين ذا لهو ولا شهوانيًّا، وكان قليل الطعام يتبلَّغ منه بوجبة النهار، ويكتفي بمنقوع الشاي يشربه مرارًا، وكان مغرمًا بتدخين السيجار، ولم يكن لخلابة النساء وسحرهن سلطان على قلبه الحديدي.
شهد في مصر أواخر عهد إسماعيل وأوائل عهد توفيق، إذ كانت تتمخض البلاد عن أزمات اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية؛ بسبب إسراف إسماعيل وضعف توفيق، وبما بدا من التصادم بين القديم والحديث، وبسبب الدَّسَائِس السياسية وتدخل الأجانب.
كل ذلك هيأ الوسائل لمواهب رجل أُوتي حظًّا عظيمًا من سُمُوِّ النَّفس، ومتانة الخلق، وتوقد الذكاء، وقوة الذاكرة، ودقة الملاحظة، إلى علم غزير، ونشاط لا يكل، وشجاعة لا تعرف الخوف، وبلاغة في الكتابة والخطاب خارقة للعادة، مع نفوذٍ ساحرٍ وسمت مهيب جليل، جذبت إلى السَّيِّد مزاياه الباهرة قلوب كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم والأدب، فكانوا يوافونه في القهوات والمنتزهات العامة حيث كان سامره مجلس علم وحكمة وأدب وسياسة.
والتف حوله أذكياءُ الطلاب، ومِن بينهم عددٌ من خيرة مجاوري الأَزْهَر، فكان يلقي عليهم دروسًا في الأدب والمنطق والتوحيد والفلسفة وعلم التصوف وأصول الفقه والفلك، في مسامرات خالية التكاليف والقيود.
وكانت مدرسته بيتَه، ولم يذهب إلى الأَزْهَر قط مدرسًا، وإنما كان يذهب إليه زائرًا، وأكثر ما كان يزوره في يوم الجمعة.
وكان يحمل تلاميذه على العمل في الكتابة وإنشاءِ الفصول الأدبية والاجتماعية والسياسية، فاشتغلوا على نظره، وبرعوا بين يديه، وكانوا طليعةَ النهضة الأدبية في مصر، وكانوا مؤسِّسي بنيانها.
وانتظم السَّيِّد في الماسونية وتقدم في درجاتها، ثم أنشأ محفلًا وطنيًّا جمع فيه نبهاء طلابه ومريديه حتى صار عددُ أعضائه نحو ٣٠٠، وكان هو رئيسَه يمرن فيه تلاميذَه على الخطابة ويلهمهم مبادئه ويُعِدُّهم للعمل، ويوقظ فيهم عواطف الوطنية ويعلمهم الشغف بحياة الحرية وبالنظم الدستورية.
وقد هيأ من تلاميذه طبقة ذات حرية وجرأة في السياسة والأدب والإصلاح، وأخذ يتوسل بالحركات السياسية، وكان الرجلُ سياسيًّا، يعتبره أشياعه وطنيًّا عظيمًا، ويعتبره خصومه مهيجًا خطرًا!
وفي سنة ١٢٩٦ﻫ/١٨٧٩م صدر أمر الخديوي توفيق بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبو تراب؛ لأن مساعيه السياسية أوغرت عليه صدر المستر فيفان قنصل إنجلترا الجنرال، وتعليمه الفلسفي هَيَّجَ عليه الجامدين من الأَزْهَريين، فجاءه الكيد من هنا وهناك!
أبحر السَّيِّد من السويس إلى «بوشيهر»، ومنها ذهب إلى حيدر أباد، فأقام عامًا كتب في أثنائه مذكراتٍ كثيرةً باللغة الفارسية والأفغانية، وكتب في ذلك الوقت بالفارسية رسالة الرَّد على الدَّهْريِّين.
ولما كانت الثورة العرابية دُعي من حيدر أباد إلى كلكتا، وألزمتْه حكومةُ الهند بالإقامة فيها حتى انقضى أمر الفتنة، وكانت الحكومة الإِنجليزية تظن أن له فيها يدًا، ثم أبيح له أن ينطلق إلى حيث شاء، فاختار الذهاب إلى أوروبا وقصد مدينة لوندرا، فأقام فيها أيامًا قلائل، ثم انتقل إلى باريس وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات.
وكتب في طريقه من بورسعيد إلى الشيخ محمد عبده يخبره بذهابه إلى لوندرا، ويطلب إليه أن يرسل الرَّد بعنوان جريدة الشرق والغرب، أو المستر بلانت.
وهذا يدل على أن السَّيِّد ذهب من الهند إلى لوندرا، خلافًا لما نقله جولد شهير في دائرة المعارف الإِسلامية عن المستر براون في روايته عن المستر بلانت «من أن السَّيِّد ذهب من الهند إلى أميريكا فأقام بها بضعة أشهُر على عزم أن يتجنس بالجنسية الأمركية، ولكنه — فيما يظهر — لم ينفِّذ هذا العزم»، فإنا نجده في لندرا سنة ١٨٨٣ حيث أقام زمنًا قصيرًا، ثم انحدر إلى باريس مع صديقه ومُريده الأمين محمد عبده، الذي صار بعد ذلك مفتي مصر.
والأقرب إلى الصحة أن السَّيِّد جمال الدين وصل باريس آتيًا من لوندرا سنة ١٨٨٣؛ كما ذكره جورج كوتشي في رسالته التي عنوانها: «الشيخ جمال الدين الأفغاني ودخائل صاحب الجلالة الإمبراطورية السلطان عبد الحميد الثاني.»
أما الشيخ محمد عبده فقد وافى أستاذه في باريس مدة مقامه بها — على ما صرح به في ترجمته لأستاذه في فاتحة تعريبه لرسالة الرَّد على الدَّهْريِّين.
وكان ذلك في أواخر سنة ١٨٨٣؛ لأن الشيخ عبده سافر إلى سوريا منفيًّا في أواخر سنة ١٨٨٢، وبعد نحو عام من مقامه هناك دعاه إلى باريس فسافر إليها.
لقد تعرفت بالشيخ جمال الدين منذ نحو شهرين، فوقع في نفسي منه ما لم يقع لي إلا من القليلين، وأثر فيَّ تأثيرًا قويًّا، وجرى بيننا حديث عقدت من أجله النية على أنْ تكون علاقةُ العلم بالإِسلام موضوعَ محاضراتي في السربون، والشيخ جمال الدين رجلٌ أفغاني لا سلطان عليه لمؤثرات الإِسلام، وهو ينتمي إلى ذلك الجنس القوي المستوطن إيران العُليا الواقعة على حدود الهند، والتي لا يزال الذهن الآري يعيش فيها مطويًّا في غلالة رقيقة من الإِسلام الرسمي، والشيح جمال الدين نفسه خيرُ دليل يُمكن أن نسوقه على تلك النظرية القائلة بأن قيمة الأديان بقيمة الأجناس التي تعتنقُها، وقد خُيِّلَ إليَّ من حُرية فكره ونبالة شِيَمِهِ وصراحته وأنا أتحدث إليه أنني أرى — وجهًا لوجهٍ — أحدَ مَن عرفتهم من القدماء، وأنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد أو أحدَ أولئك الملحدين العظام الذي ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار.
ألقى رينان محاضرته في الإِسلام والعلم في مارس ١٨٨٣، ونُشرت عقب إلقائها في جريدة الديبا، فأرسل السَّيِّد جمال الدين إلى مدير هذه الجريدة ردًّا بالعربية تُرجم إلى الفرنسة ونُشِرَ بعد بضعة أسابيع، وعقَّب عليه رينان بِرَدٍّ مملوء باللطف والمجاملة.
أخذ السَّيِّد جمال الدين ينشر أفكاره السياسية محاربًا تدخل بعض الدول الغربية في شئون الأمم الإِسلامية، خصوصًا الهند ومصر، في مقالات تداولتْها الجرائدُ الكبرى، وامتدتْ إليها أعناقُ الدوائر السياسية المشتغلة بشئون الشرق.
على أن أكبر مظهر لنشاط جمال الدين السياسي والأدبي في باريس كان في إنشاء «العروة الوثقى»، وهي مجلةٌ أسبوعية عربية، كان هو مدير سياستها والشيخ محمد عبده محررها، وكانت تتولى الإنفاق عليها جمعيةٌ اسمها «جمعية العروة الوثقى» ذات فروع في الهند ومصر وغيرهما من أقطار الشرق الإِسلامي، تعمل على إنهاض الدول الإِسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام على شئونها، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقية، وتقليص ظلها عن رءوس الطَّوَائِف الإِسلامية، وقد أخذتْ هذه الجريدةُ من قلوب الشرقيين — عمومًا — والمسلمين — خصوصًا — ما لم يأخذه قبلها وعظُ واعظٍ ولا تنبيه منبه، وهي ذات أثر في كل ما جَدَّ بعدُ من حركات الوطنية والحرية في بلاد الشرق.
وقد لقيت هذه الجريدة كل مصادرة في الهند ومصر، حتى كانت تُوضع في غلاف لتصل إلى من يُراد إيصالها إليه، وحتى أُعلن في الجريدة الرسمية المصرية أن كل مَن توجد عنده العروةُ الوثقى يغرَّم خمسة جنيهات مصرية إلى خمسة وعشرين جنيهًا! وقد نشر منها في ثمانية أشهر ١٨ عددًا، صدر آخرها في ذي الحجة ١٣٠١.
خَفَتَ صوتُ العروة الوثقى بما أرصدتْه لها إنجلترا من عنت وإرهاق، وترك الشيخ محمد عبده باريس عائدًا إلى سوريا.
أما السَّيِّد جمال الدين فبَقِيَ في أوروبا متنقلًا بين لوندرا وباريس، يتصل بالعلماء والكُتَّاب ورجالات السياسة، وينشر فصولَه ومقالاتِه في الجرائد الكبرى.
وجمع المستر بلانت بينه وبين اللورد سالسبوري واللورد تشرشل للمفاوضة في أمر ثورة المهدي في السودان، وهي يومئذٍ شغل القوم الشاغل، لكن التوفيق بين وجهات نظر متناقضة لم يكن مُستطاعًا.
وفي جمادى الأولى ١٣٠٣ سافر السَّيِّد إلى البلاد الإيرانية بدعوة من الشاه ناصر الدين، فنالَ مكانة سامية، وتزاحم حوله الأمراء والمجتهدون والكبراء، وتمكن من نظم كثير منهم في سلك الماسونية.
وكَأَنَّما غشيت الشاه من ذلك ريبةٌ، وملأه الخوفُ من تعاظُم السلطان الروحيِّ لجمال الدين على شعبٍ أصبح يحيطه بإجلاله ومحبته.
ولمح جمال الدين تنكُّر الشاه له، فغادر بلاد فارس إلى روسيا، فحل من الشَّعْب الروسيِّ محل الكرامة، وجعلتْ تتلقفه المجامعُ العالية، ونشر في الجرائد الروسية فصولًا تردد في عالم السياسة صداها.
ثم سافر إلى باريس ليزور معرضها الكبير سنة ١٨٩٩، فالتقى في منخ بالشاه ناصر الدين عائدًا من باريس، وما زال الشاه يزين له العودة إلى فارس حتى لان شماسه وأجاب الدعوة.
وقد سارع الشَّعْب الإيراني إلى الالتفاف حول السَّيِّد من جديد، على وجه أبعثَ للمهابة وأَدَلَّ على الحُبِّ والثقة، ولم يقتصرْ أمرُ مؤثريه على سماع مسامراته التي كان يبث فيها معارفه وأفكاره الحرة، بل جعل الشَّعْب يتوسل به إلى تحقيق مطامحه في إصلاح الإدارة وإقامة العدل والقانون، وبدتْ نهضة إصلاح يكرهها الصدر الأعظم ويخشى عواقبها على سلطانه، فوسوس للشاه حتى غيَّر قلبه على السَّيِّد.
هنالك خرج جمال الدين إلى «شاه عبد العظيم»، وهو مكانٌ على بعد عشرين كيلو مترًا من طهران به مقامٌ مقدس، لكنه لم يخلد إلى راحة هناك ولا سكون، بل جعلتْ طوائفُ المستنيرين من الطبقات المختلفة حتى طبقات الشبان من الضباط تشد رحالها إلى «شاه عبد العظيم».
أدرك الشاه ناصر الدين الفزع، وخاف أن تُزلزل تلك الحركة قواعدَ سلطانه المطلق، فبعث إلى جمال الدين بخمسمائة من فرسانه مُدَجَّجين بالسلاح اقتحموا عليه — وهو عليلٌ في فراشه — وقاده خمسون منهم إلى ما وراء الحدود.
أقام جمال الدين في البصرة زمنًا حتى أبلَّ من سقامه، ولم يزل يوالي أنصاره في فارس بكتبه؛ يثير فيهم الحمية ويؤجج بين جوانحهم نارَ الوطنية، وكأن ما ناله من عسف الشاه قد أثار حفيظتهم.
وفي سنة ١٨٩٠ كانتْ حكومة فارس جعلت حق احتكار التنباك لشركة إنجليزية، فاغتنم الفرصةَ السَّيِّد جمال الدين وكتب خطابًا لميرزا حسن الشيرازي رئيس المجتهدين، يعيب فيه على الحكومة هذا العمل الضارَّ بثروة البلاد الممكِّن لأعدائها.
وكان مِن أثر هذا الخطاب أنْ أصدر المجتهدُ الشيرازيُّ فتوى حَرَّمَ بها على كل مؤمن تدخينَ التنباك ما لم تعدل الحكومةُ عن مشروعها، وقد اضطرتْ إلى العدول عنه ودفعتْ للشركة تعويضًا.
وكذلك قويتْ دعوةُ الحرية والإصلاح الدستوري في فارس، حتى طاحتْ بعدُ برأس الشاه ناصر الدين.
وفي سنة ١٨٩٢ ذهب السَّيِّد إلى لوندرا مرة أخرى وأقام فيها ثمانية أشهر، موجهًا كل همته إلى محاربة الشاه ناصر الدين بقلمه ولسانه، داعيًا إلى تخليص الشَّعْب الفارسيِّ من ظلم الحكم الاستبدادي، وكان من المؤسسين للمجلة الشهرية «ضياء الخافقين» التي كانت تصدر بالعربية والإِنجليزية، وكان مِن أكثر العاملين فيها نشاطًا.
وأرسل السلطان عبد الحميد إلى السَّيِّد جمال الدين بوساطة سفير تركيا في لوندرا كتابًا خلابًا؛ يستدعيه إلى الأستانة، فتردد السَّيِّد واعتذر، لكن السلطان وجه إليه رسالة ثانية أكثر خداعًا ودهاءً، فأجاب برسالة برقية أنه مُلَبٍّ دعوةَ صاحب الجلالة، على أن يؤذن له بالعودة إلى أوروبا عقب الحظوة بالمقابلة.
وسافر جمال الدين إلى القسطنطينية، فاستغواه السلطان عبد الحميد، وهيأ له منزلًا جميلًا يقوم على ربوة نشان طاغ، غير بعيد من قصر يلدز، وفرض له ٥٧ جنيهًا تركيًّا راتبًا شهريًّا.
وقضى السَّيِّد جمال الدين خمسَ سنين من حياته في الأستانة «يعيش بين مظاهرَ خَدَّاعة من عطف السلطان، ودسائسَ لا تحصى يبيتها له رجال القصر! وكم تضرع إليهم أن يسمحوا له بالسفر، فأمسكوه بقيةَ عمره في إسار مموه بالذهب.»
ذلك وصف سائح ألماني زاره سنة ١٨٩٦.
ومات جمال الدين يوم الثلاثاء ٩ مارس سنة ١٨٩٧ الساعة ١٢ والدقيقة ١٣ إثر أوجاع مضنية، وعقب موته أرسل السلطان بعض موظفي قصره ليستحوذوا على أوراقه ومؤلفاته.
ويؤكد أكثرُ الإيرانيين، وغيرهم ممن ترجموا لجمال الدين؛ أن موته لم يكن طبيعيًّا، وأنه لقح في شفته بمادة سامة، سببتْ له حالة مَرَضية تشبه السرطان، ويقولون: إن ذلك من كيد أبي الهدى.
وأمر السطان بدفنه لساعتين من وفاته، فسير نعشه بين جموع عديدة من الشرطة؛ مخافة فتنة مباغتة من أنصاره الذين كانوا في ريبٍ من أسباب موته.
هكذا مات السَّيِّد جمال الدين وشيعت جنازته، بعد أن عاش رجلًا ممتازًا، مؤثرًا في حوادث الشرق الإِسلامي خلال عشرين سنة أكثر مما أثر فيها أي رجل آخر من أهل زمانه.
وقد عاش متنقِّلًا في البلاد منذ طفولته، فزار بلاد العرب ومصر وتركيا، وأقام بالأفغان والهند وفارس، واتصل بحكومة الأفغان في شبابه مشتركًا في حروبها الداخلية، كما اتصل بحركات النهوض في كل بلاد الشرق التي حَلَّ بها، وزار كثيرًا من العواصم الأوروبية وكتب في جرائدها، وخطب في مجامعها، وخالط رجال السياسة والعلم والأدب فيها، وشَهِدَ دسائس الاستعمار الإنجليزي والأفغاني، والهند، وطارده الإنجليزُ في مصر وغيرها، وأماتوا مجلة العروة الوثقى في مهدها، ووضعوا العقبات في سبيله أنَّى سار!
من أجل ذلك لم يتعلقْ ببلدٍ من البلاد على أنه وطنٌ، ولم تدخل فكرةُ الوطنية بهذا المعنى في مذهبه الاجتماعيِّ، ومن أجل ذلك اشتد كُرْهُهُ للإنجليز وعاش عدوًّا لهم لدودًا.
هو قد رأى الرقيَّ في بلاد أوروبا، ورأى الانحطاط في بلاد الشرق التي زارها، شهد نفوذ الأجنبي فيها وسُوء أثر الحكم الاستبدادي؛ فتوجهتْ فكرته إلى إنهاض تلك البلاد جملة وفُرادى، ولهذه الممالك الشرقية الإِسلامية حُبٌّ في نفسه ينظمها جميعًا.
أما أساس النهوض لهذه البلاد عنده فهو خلاصُها من سلطان الأجنبي، وخلاصُها من الحكم الاستبدادي، ثم تلائمها بنوعٍ من الوحدة يقوي التناصر بينها، ويكفل لها الغلب.
وإن استيفاء النظر في تاريخ السَّيِّد جمال الدين هو — كما يقول الأستاذ براون — إحاطة بتاريخ المسألة الشرقية كلها في الأزمان الحديثة، يدخل في ذلك تاريخ الأفغان والهند، ويدخل فيها — بوجهٍ أخصَّ — تاريخُ تركيا ومصر وإيران، وفي هذه البلاد الثلاثة الأخيرة لا يزال تأثيره حيًّا.
وإذا كان قبر السَّيِّد جمال الدين الأفغاني ظل في الأستانة مهدَّمًا مهجورًا حتى جاءه في العام الماضي مستر كرين الأميركي فشيده وأظهره، فبحسب السَّيِّد أن مبادئه بعد مماته وموت الطغيان في الأستانة قامتْ حيةً مشرقة على أطلاله.
حسب جمال الدين من عظمةٍ ومجدٍ؛ أنه في تاريخ الشرق الحديث أولُ داعٍ إلى الحرية، وأول شهيد في سبيل الحرية.