الفصل الأول
إن استقراء حال الأفراد من كل أُمة واستطلاع أهوائها؛ يثبت لجلي النظر ودقيقه وجودُ تعصُّب للجنس ونعرة عليه عند الأغلب منهم، وإن المتعصب لجنسه منهم لَيَتيه بمفاخر بَنِيه ويغضب لما يمسهم حتى يُقتل دون دفعه بدون تنبه منه لطلب السبب ولا بحث في علة هذا الوجدان، حتى ظن كثيرون من طلاب الحقيقة أن التعصب للجنس من الوجدانيات الطبيعية، إلا أنه يبعد ظنهم ما نراه في حال طفل وُلد في أُمة من الأُمم ثم نُقل قبل التمييز إلى أرض أمة أخرى ورُبِّيَ فيها إلى أنْ عقل ولم يذكر له مولده، فإنا لا نرى في طبعه ميلًا إليه، بل يكون خالي الذهن من قبله، ويكون مع سائر الأقطار سواء، بل ربما كان آلفَ لمرباه وأميلَ إليه؛ والطبيعي لا يتغير.
ولهذا لا نذهب إلى أنه طبيعي، ولكن قد يكون من الملكات العارضة على الأنفُس، ترسمها على ألواحها الضرورات؛ فإن الإنسان في أي أرض له حاجاتٌ جَمَّةٌ، وفي أفراده ميلٌ إلى الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية زكية، وسعة المطمع إذا صحبها اقتدارٌ تدعو بطبعها إلى العدوان؛ فلهذا صار بعضُ النَّاس عُرضة لاعتداء بعضٍ آخرَ، فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقابًا طوالًا إلى الاعتصاب بلُحمة النسب على درجاتٍ متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس، فتوزعوا أُممًا كالهنديِّ والإنجليزي والروسيِّ والتركماني، ونحو ذلك، ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده المتلاحمة قادرًا على صيانة منافعه وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الآخر، ثم تجاوزوا في ذلك حد الضرورة — كما هي عادة الإنسان في أطواره — فذهبوا إلى حد أن يأنف كل قبيل من سُلْطة الآخر عليه، علمًا بأنه لا بد أن يكون جائرًا إذا حكم، ولئن عدل فإن في قبول حكمه ذلًّا تحس به النَّفس، وينفعل له القلب.
فلو زالت الضرورة لهذا النوع من العصبية؛ تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في الحدوث — بلا ريب — وتبطل الضرورة بالاعتماد على حاكم تتصاغر لديه القوى وتتضاءل لعظمته القدرةُ وتخضع لسلطته النُّفُوس بالطمع، وتكون بالنسبة إليه متساويةَ الأقدام وهو مبدأ الكل وقَهَّار السماوات والأرض، ثم يكون القائم من قِبَله بتنفيذ أحكامه مساهمًا للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم الحاكمين، فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى وأيقنت بمشاركة القيِّم على أحكامه لعامتهم في التضامن، لما أمر به؛ اطمأنت في حفظ الحق ودفع الشر إلى صاحب هذه السلطة المقدسة، واستغنتْ عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها فمُحِيَ أثرُها من النُّفُوس، والحكم لله العلي الكبير.
هذا هو السر في إعراض المسلمين — على اختلاف أقطارهم — عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإِسلامية؛ فإن المتدين بالدين الإِسلامي متى رسخ فيه اعتقادُه يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفتُ عن الروابط الخاصة إلى العلاقة العامة، وهي علاقة المعتقَد.
لأن الدين الإِسلامي لم تكن أُصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق، وملاحظة أحوال النُّفُوس من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى، بل هي كما كانت كافلة لهذا؛ جاءتْ وافية بوضع حدود المُعاملات بين العباد وبيان الحقوق كُلِّيِّها وجزئيِّها، وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة الحدود وتعيين شروطها، حتى لا يكون القابضُ على زمامها إلا مِن أشدِّ النَّاس خضوعًا لها، ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية وثروة مالية، وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتَهم المقدسة الإلهية التي لا تميز بين جنس وجنس واجتماع آراء الأمة، وليس للوازع أدنى امتياز عنهم إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدِّفَاع عنها.
وكل فخار تكسبه الأنسابُ وكل امتياز تُفيده الأحساب لم يَجعل له الشارعُ أثرًا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض، بل كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتةٌ على لسان الشارع، والمعتمِد عليها مذمومٌ والمتعصِّب لها مَلُومٌ، فقد قال ﷺ: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية»، والأحاديثُ النبوية والآيات المنزَّلة متضافرةٌ في هذا، ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من يفوق الكافَّة في التقوى — اتِّباع الشريعة: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ومِن ثَمَّ قام بأمر المسلمين في كثير من الأزمان على اختلاف الأجيال؛ مَنْ لا شرف له في جنسه، ولا امتيازَ له في قبيله، ولا وَرِثَ الملك عن آبائه، ولا طلبه بشيء من حسبه ونسبه، وما رفعه إلى منصة الحكم إلا خضوعُهُ للشرع وعنايتُهُ بالمحافظة عليه.
وإن بسطة ملك الوازعين في المسلمين كان يُسديها إليهم على حسب امتثالهم للأحكام الإلهية، واهتدائهم بهديها، وتجرُّدهم عن الاعتلاء الشخصي، وكلما أراد الوازع أن يختص نفسه بما يفوق به غيره، في أبهته ورفاهة معيشته، وأن يستأثر على المحكومين بحظ زائد؛ رجعت الأجناس إلى تعصبها ووقع الاختلاف، وانقبضت سلطة ذاك الوازع.
هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا يعتدون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين؛ لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي، والفارسي يقبل سيادة العربي، والهندي يُذعن لرياسة الأفغاني، ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وأن المسلم في تبدُّل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يُعرض عليه من أشكالها وانتقالها من قبيل إلى قبيل ما دام صاحب الحكم حافظًا لشأن الشريعة ذاهبًا مذاهبها. نعم، إذا نبأ في سيره عنها وجار في حكمه عما نصت عليه وطلب الأثرة بما ليس من حقه؛ انصدعت منه القلوب، وانحرفت عن محبته الأنفُس، وأصبح وإن كان وطنيًّا فيهم أشنعَ حالًا من الأجنبي عنهم.
إن المسلمين اختصوا من بين سائر أرباب الأديان بالتأثُّر والأسف عندما يسمعون بانفصال بقعة إسلامية عن حكم إسلامي بدون التفات إلى جنسها وقبيلها.
ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية وثابر على رعايتها، وأخذ الدهماء بحدودها وضرب بسهمه مع المحكومين في الخضوع لها، وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة؛ لأمكنه أن يحوز بسطة في الملك وعظمة في السلطان، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين، ولا يتجشم في ذلك أتعابًا ولا يحتاج إلى بذل النفقات ولا تكثير الجيوش، ولا مظاهرة الدول العظيمة ولا مداخلة أعوان التمدن وأنصار الحرية … ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين والرجوع إلى الأُصُول الأولى في الديانة الإِسلامية القويمة، ومن سيره هذا تنبعث القوة وتتجدد لوازمُ المنعة، أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإِسلامي لم تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط، ولكن مع ذلك أتى بما فيه مصلحةُ العباد في دنياهم وما يكسبهم السعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وهو المعبر عنه في الإصلاح الشرعي بسعادة الدارين، وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس المتباينة والأمم المختلفة.
ابيضَّتْ عين الدَّهْر وامتقع لون الزمان حتى أصاب أن بعضًا من المسلمين على حكم الندرة يعز عليهم الصبر، ويضيق منهم الصدر لجور حكامهم وخروجهم في معاملتهم عن أُصول العدالة الشرعية، فيلجئون للدخول تحت سلطة أجنبية، على أن الندم يأخذ بأرواحهم عند أول خطوة يخطونها في هذا الطَّرِيق، فمثلهم كمثل من يريد الفتك بنفسه حتى إذا أحس بالألم رجع واسترجع … وإن بعض ما يطرأ على الممالك الإِسلامية من الانقسام والتفريق إنما يكون منشأه قصور الوازعين وحيدانهم عن الأُصُول القويمة التي بُنيت عليها الديانة الإِسلامية، وانحرافهم عن مناهج أسلافهم الأقدمين، فإن منابذة الأُصُول الثابتة والنكوب عن المناهج المألوفة؛ أشد ما يكون ضررهما بالسلطة العليا، فإذا رجع الوازعون في الإِسلام إلى قواعد شرعهم وسارُوا سيرة الأولين السابقين، لم يمض قليلٌ من الزمان إلا وقد آتاهم بسطة في الملك وألحقهم في العِزَّة بالراشدين أئمة الدين — وفقنا الله للسداد، وهدانا طريق الرشاد.