الفصل العاشر
«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.»
•••
أمران خطيران، تحمل عليهما الضرورة تارة، ويهدي إليهما الدين تارة أُخرى، وقد تفيدهما التَّرْبِيَة وممارسةُ الآداب، وكلٌّ منهما يطلب الآخر ويستصحبه، بل يستلزمه، وبهما نُمُوُّ الأُمم وعِظَمُها ورفعتها واعتلاؤها؛ وهما: الميل إلى وحدة تجتمع، والكلف بسيادة لا توضع، وإذا أراد الله بشعب أن يوجَد ويلقي بوانيه (يثبت ويقيم) إلى أجل مسمًّى؛ أودع في ضآضئه (أصوله) هذين الوصفين الجليلين، فأنشأه خلقًا سويًّا، ثم استبقى له حياته بقدر ما مَكَّنَ فيه من الصفتين إلى منتهى أجله.
كل أُمَّة لا تمد ساعدها لمغالبة سواها لتنال منها بالغلب ما تنمو به بنيتها، ويشتد به بناؤها؛ فلا بد يومًا أن تُقضم وتُهضم وتَضمحل ويُمحى أثرها من بسيط الأرض، إن التغلب في الأمم كالتغذي في الحياة الشخصية، فإذا أُهمل البدن من الغذاء وقفتْ حركة النمو، ثم ارتدتْ إلى الذبول والنُّحول، ثم أفضت إلى الموت والهلاك، وليس من الممكن لأمة أن تحفظ قوامها، وتصول على من يليها لتختزل منه ما يكون مادةً لنمائها، إلا أن تكون متفقة في تحصيل ما تحتاج إليه هيئتها.
إذا أحسست من أمة ميلًا إلى الوحدة فبشرْها بما أعد الله لها في مكنون غيبه من السيادة العليا والسلطة على متفرقة الأمم.
إذا تصفحنا تاريخ كل جنس واستقرينا أحوال الشعوب في وجودها وفناها؛ وجدنا سنَّة الله في الجمعيات البشرية: حظها من الوجود على مقدار حظها من الوحدة، ومبلغها من العظمة على حسب تطاوُلها في الغلب، وما انحرف شأنُ قوم وما هبطوا عن مكانتهم، إلا عند لهوهم بما في أيديهم، وقناعتِهم بما تَسَنَّى لهم، ووقوفهم على أبواب ديارهم، ينظرون طارقهم بالسوء، وما أهلك الله قبيلًا إلا بعدما رُزئوا بالافتراق، وابتُلوا بالشقاق، فأورثهم ذلًّا طويلًا وعذابًا وبيلًا، ثم فناءً سرمديًّا.
الوفاق تواصُل وتقارب، يحدثه إحساسُ كل فرد من أفراد الأمة بمنافعها ومضارها، وشعور جميع الآحاد في جميع الطبقات بما تكسبه من مجد وسلطان، فيلذُّ لهم كما يلذ أشهى مرغوبٍ لديهم، وبما تفقده من ذلك، فيألمون له كما يألمون لأعظم رزء يصابون به، وهذا الإحساس هو ما يبعث كل واحد على الفكر في أحوال أمته، فيجعل جزءًا من زمنه للبحث فيما يرجع إليها بالشرف والسؤدد، وما يدفع عنها طوارقَ الشر والغيلة.
ولا يكون همه بالفكر في هذا أقل من همه بالنظر في أحواله الخاصة، ثم لا يكون نظرًا عقيمًا حائزًا بين جدران المخيلة، دائرًا على أطراف الألسنة، بل يكون استبصارًا تتبعه عزيمة يصدر عنها عمل يُثابر على استكماله بما يمكن من السعة، وما تحتمله القدرة على نحو ما يكون في استحصال مواد المعيشة بلا فرق، بل تجد الأنفس أن شأن الأمة في المكان الأول من النظر، والدَّرَجَة الأولى من الاعتبار، والشئون الخاصة في المنزلة الثانية منهما.
ولا تقف فيما تجد عند جلب المصالح ودرء المفاسد لأوقاتها الحاضرة، بل يأخذ العقلاء منها سُبُلًا من التفكير، ويخترطون سيوفًا من الهمة، ليصيبوا من سعيهم شواردَ من القوة، ونواد من المكنة، ويستخرجوا دفائن من الثروة ويجمعوا ذلك للأمة، لصيانة حياتها إلى حد العمر اللائق بها، كما يسعى الحازم جهده لتوفير ما يلزم لمعيشته، وما يطمئن به قلبه في دفع حاجته مدة العمر الغالب، بل يزيد عليه ما فيه الكفاية لأبنائه من بعده، وإن الدور الأول من أعمار الأمم لا ينقص عن خمسة قرون ثم تتلوه سائر الأدوار، وأولها أقصرها وهو سن الطفولية، وبدء الكمال فيما يليه، فما أرفع همم العقلاء في الأمم المستبصرة!
إذا بلغ الإحساس من مشاعر أفراد الأمة إلى الحد الذي بيناه، رأيت في الدهماء منهم والخاصة هممًا تعلو، وشيمًا تسمو، وإقدامًا يقود، وعزمًا يسوق، كلٌّ يطلب السيادة والغلب، فتتلاقى هممهم، وتتلاحق عزائمهم في سبيل الطلب، فيندفعون للتغلب على الذين يلونهم، كما تندفع السيول على الوهاد، ولا تقف حركتهم دون الغاية مما نهضوا إليه، ويكون نزوهم على الأمم بعد الغلب الأول تدفقًا من الطبع لا يحتاج إلى فكر وروية إلا في إعداد وسائل الفوز والظفر.
هذا الأمران — الوفاق والغلب — عمادان قويان وركنان شديدان من أركان الديانة الإِسلامية، وفرضان محتومان على مَن يستمسك بها، ومَن خالف أمر الله فيما فرض منهما عُوقب من مقته بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، جاء في قول صاحب الشرع: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وإن المؤمن ينزل من المؤمن منزلة أحد أعضائه إذا مس أحدَها ألمٌ تأثر له الآخر، وجاء في نهيه: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا»، وأَنْذَرَ ما شذ عن الجماعة بالخسران والهلكة، وضرب له مثل الشاة القاصية تكون فريسة للذئاب.
هذا كله بعدما أمر الله عبادَه بالاعتصام بحبله، ونهاهم عن التفرُّق والتغابُن، وامتنَّ عليهم بنعمة الأخوة بعد أن كانوا أعداء، ونطق الكتاب الإلهي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وطلب من المخاطبين بآياته أن يبادروا بإصلاح ذات البين عند التخالُف، ثم شدد على وُجوب الإصلاح وإن أدى إلى مقاتَلة الباغي، فقال: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ، وإنما أمر الله الدخول فيما اتفق عليه المؤمنون وتوحيد الكلمة الجامعة: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وتوعد الكتاب الأقدس كل من انحرف عن سبيل المؤمنين بالعقاب الأليم، فحكم بأن من يتبع غير سبيل المؤمنين يوله الله ما تولى، ويصله جهنم وساءت مصيرًا، وفي أمره الصريح إيجابُ التعاوُن على البر والتقوى، ولا بر أحق بالتعاون عليه من تعزيز كلمة الحق وإعلاء منار الأُمَّة.
وأخبر الصادق ﷺ أن: «يد الله مع الجماعة»، وكفى بالقدرة الإلهية عونًا إذا صح الاجتماع وصدقت الألفة، وقد بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإِسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية، حتى جعل إجماع الأمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفًا عن حكم الله وما في علمه، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعَدَّ جحوده مروقًا من الدين، وانسلاخًا عن الإيمان، ومن عناية الشارع بأمر الاتفاق قوله ﷺ: «لو دعيت إلى حِلْف الفضول لفعلت» (حلف الفضول: ما كان من هاشم وزهرة وتيم، حيث وفدوا على عبد الله بن جدعان وتحالفوا على أن يدفعوا الظلمَ ويأخذوا الحق من الظالم، وسمي حلف الفضول؛ لأنهم تحالفوا على أن لا يدعوا عند أحد فضلًا يزيد عن حقه ويكون نواله بالظلم إلا أخذوه منه وردوه لمستحقيه)، فهو من حِلْف الجاهلية، وقد صرَّح الشارع بقبوله لو دعي إليه، هذا إجمالُ الأدلة على وجوب الاتفاق وحظر المنابَذة والمغابَنة بين المسلمين، بل وبينهم وبين غيرهم ممن رضي بذمتهم وقَبِلَ جوارَهم بالمعروف في شرعهم، فإن سبيل المؤمنين يسعه ولا يضيق عنه.
وأما السعي لإعلاء كلمة الحق وبسطة الملك وعموم السيادة، فلا تجد آية من آيات القرآن الشريف إلا وهي داعية إليه، جاهرة بمطالبة المسلمين بالجد فيه، حاظرة عليهم أن يتوانوا في أداء المفروض منه، ومن الأوامر الشرعية أن لا يدع المسلمون تنمية ملتهم حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله، وفي السنة المحمدية والسيرة النبوية، مما يضافر آيات القرآن ما جمعه العلماء في مجلدات يطول عدها، هذا حكم ديننا لا يرتاب فيه أحد من المؤمنين به والمستمسكين بعروته.
هل يمكن لنا — ونحن على ما نرى من الاختلاف والركون إلى الضيم — أن ندَّعيَ القيام بفروض ديننا؟ كيف ومعظم الأحكام الدينية موقوفٌ إجراؤه على قوة الولاية الشرعية، فإن لم يكن الوفاقُ والميل إلى الغلب فرضين لذاتهما، أفلا يكونان مما لا يتم الواجب إلا به؟ فكيف وهما ركنان قامت عليهما الشريعة — كما قدمنا؟ هل لنا عذر نقيمه عند الله يوم العرض والحساب، يوم لا ينفع خُلَّة ولا شفاعة بعد هدم هذين الركنين، وأيسر شيء علينا إقامتهما وعديدنا خمسمائة مليون أو يزيد، هل يتيسر لنا — إذا خلونا بأنفسنا وجادلتْنا ضمائرنا — أن نقنعها ونرضيها بما نحن عليه الآن؟
كل هذه الرزايا التي حَطَّت بأقطارنا، ووضعت من أقدارنا، ما كان قاذفنا ببلائها، ورامينا بسهامها إلا افتراقُنا وتدابرُنا والتقاطع الذي نهانا الله ونبيه عنه. لو أدينا حقوقًا تطالبنا بها تلك الكلمة التي تهل بها ألسنتنا، وتطمئن قلوبنا بذكرها — وهي كلمة الله العليا — هل كان يمكن للأغراب أن يمزقوا ممالكنا كل ممزق؟ وهل كان يلمع سيف العدوان في وجوهنا؟ وهل كنا نشيم نيران الأعداء إلا وأقدامنا في صياصيهم، وأيدينا على نواصيهم؟ إن لأبناء المِلَّة الإِسلامية يقينًا بما جاء به شرعهم، لكن أليس على صاحب اليقين بدين أن يقوم بما فرض الله عليه في ذلك الدين؟ أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.
ولا ريبة في أن المؤمن يَسُرُّهُ أن يعلمه الله صادقًا لا كاذبًا، وأي صدق تظهره الفتنة ويمتاز به الصادق من الكاذب إلا الصدق في العمل، هل يود المسلم لو يُعَمَّرُ ألف سنة في الذل والهوان وهو يعلم أن الازدراء بالحياة هو دليلُ الإيمان، أنرضى — ونحن المؤمنون — وقد كانت لنا الكلمة العليا أن تُضرب علينا الذلة والمسكنة، وأن يستبد في ديارنا وأموالنا مَن لا يذهب مذهبنا، ولا يرد مشربنا، ولا يحترم شريعتنا، ولا يرقب فينا إلًّا ولا ذمة، بل أكبر همه أن يسوق علينا جيوش الفناء حتى يخلي منا أوطاننا، ويستخلف فيها بعدنا أبناء جلدته، والجالية من أمته؟
لا. لا. إن المخلصين في إيمانهم الواثقين بوعد الله في نصر من ينصر الله الثابت في قوله: إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ لا يتخلفون عن بذل أموالهم وبيع أرواحهم، والحق داع والله حاكم والضرورة قاضية، فأين المفر؟ المبصر بنور الله يعلم أنه لا سبيل لنصر الله وتعزيز دينه إلا بالوفاق وتعاون المخلصين من المؤمنين، هل يسوغ لنا أن نرى أعلامنا منكسة، وأملاكنا ممزقة، والقرعة تُضرب بين الغرباء على ما بقي في أيدينا، ثم لا نُبدي حركة، ولا نجتمع على كلمة، وندعي مع هذا أننا مؤمنون بالله وبما جاء به محمد؟ واخجلتاه لو خطر هذا ببالنا! ولا أظنه يخطر ببال مسلم يجري على لسانه شاهد الإِسلام.
إن الميل للوحدة والتطلُّع للسيادة وصدق الرغبة في حفظ حوزة الإِسلام؛ كل هذه صفاتٌ كامنةٌ في نفوس المسلمين قاطبة، ولكن دهاهم بعض ما أشرنا إليه في أعداد ماضية، فألهاهم عما يُوحِي به الدين في قلوبهم وأَذْهَلَهم أزمانًا عن سماع صوت الحق يناديهم من بين جوانحهم، فسَهَوْا وما غووا، وزلوا وما ضلوا، ولكنهم دهشوا وتاهوا، فمثلهم مثل جواب المجاهيل من الأرض في الليالي المظلمة، كلٌّ يطلب عونًا وهو معه ولكن لا يهتدي إليه، وأرى أن العلماء العاملين لو وَجَّهُوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض المسلمين إلى مسامع بعض؛ لَأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت، وليس بعسير عليهم ذلك بعدما اختص الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام وفَرَضَ على كل مسلم أن يحجه ما استطاع، وفي تلك البقعة يحشر الله من جميع رجال المسلمين وعشائرهم وأجناسهم، فما هي إلا كلمة تُقال بينهم من ذي مكانة في نفوسهم تهتزُّ لها أرجاءُ الأرض، وتضطرب لها سواكنُ القلوب، هذا ما أعدتهم له العقائدُ الدينية.
فإن أضفت إليه ما أذاب قلوبهم من تعديات الأجانب عليهم، وما ضاقتْ به صدورُهم من غارات الغرباء على بلادهم، حتى بلغت أرواحهم التراقي، ذهبت إلى أن الاستعداد بلغ من نفوس المسلمين حدًّا يوشك أن يكون فعلًا، وهو مما يؤيد الساعين في هذا المقصد، ويهيئ لهم فوزًا ونجاحًا بعون الله الذي ما خاب قاصده، وهو ربي إليه أدعو وإليه أنيب.