الفصل التاسع والسبعون
رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (الكهف: ١٠)، ربنا اشرح صدورَنا لِما فيه خيرُنا وخير أهل مِلَّتِنا أجمعين، اللهم إنك تعلم خيرنا وفلاحنا في اجتماعنا وائتلافنا، وارتباطنا بعلائق ديننا، واعتصامنا بحبلك المتين، اللهم كفر عنا سيئات التفريط فيما أوجبت علينا من ذلك بالهداية إلى الإنابة والإعانة على تلافِي ما فرط والقيام بالمستطاع مما فرضت.
مضى زمانٌ فرط فيه الهنديون عند تداخُل الإنجليز في شئونهم فتدابروا، وحول كلٌّ وجهه عن الآخر، ولم يُصغوا لدعوة الله في طلب الاعتصام بحبله، فذاقوا وبال أمرِهم، وسقطوا جميعًا تحت سلطة الدولة الإِنجليزية، وسادتْ عليهم واتخذت الساداتِ منهم خدمًا لرجالها وخولًا بعد أنْ كانت تدعي أنها خادمةٌ لهم أمينةٌ في الخدمة، ولم يهن لها أن تكون سيدة عادلة، بل تجاوزت فيهم حد العدل، واستبدت عليهم ظالمة جائرة.
فلما لفحتْهم نيرانُ القسوة، أقبل بعضهم على بعض ونهضوا جميعًا؛ للتملُّص من أغلال ظالميهم، من نحو أربع وعشرين سنة. إلا أن إخوانهم الأفغانيين والبلوجيين والإيرانيين كانوا في غفوة عما نهضوا إليه ولم يَمُدُّوا لهم يد المساعدة، بل كان الإيرانيون في حرب مع الإنجليز ولكن لم يواصلهم الهنديون ولم يرتبطوا بهم في التعاوُن على شأنهم، كما أنهم لم يرتبطوا في ذلك مع العثمانيين، فإهمال جيرانِهم ورسوخ أقدام العدو بينهم؛ كان سببًا في تغلُّب الظلمة الأغراب عليهم، ولو عقل المهملون لَعلموا أن العدو إذا تمكن في الهند قويتْ شوكتُهُ ثم كر عليهم، وأوقع بهم ما أوقع بإخوانهم.
بعد هذا زحف العدو الغريب على بلوجستان واشتغل معها بالمنازلة، وفرط الأفغانيون والإيرانيون في تعضيدهم، فتم له بذلك أنْ يسود في جزء عظيم من أراضيهم، ثم انقلب على الأفغانيين وكانت بينه وبينهم حربٌ هائلة، امتد زمنُها نحو سنتين وما نبض في الهنديين عِرْقٌ، ولا امتد من الإيرانيين ساعِدٌ، ولا كانت بينهم وبين العثمانيين وصلة، ولو كان لجميعهم بصر بالعاقبة لَأدركوا أن حياة كل منهم معقودةٌ بحياة الآخرين.
بالغ الخصم في تطاوُله حتى اعتدى على الممالك العثمانية بسوق جيوشه إلى الأقطار المصرية التي هي أعظم إيالة من إيالات العثمانيين، بل أهم أقطار المسلمين، وهو الآن في محاولة الاستيلاء على تلك البلاد، والاستبداد بالحكم فيها غير مبال بحقوق الدولة العثمانية، ولا محترم ولايتها الشرعية، وكان المسلمون لبداية الأمر على مثل تفريطهم السابق، غير ملتفتين إلى ما حَلَّ بهذا القطر الإِسلامي العثماني، ظنًّا منهم أن العدو يصدق مرة في وعده أو يخشى عاقبة السوء من طمعه، فلما رأوه غريقًا في غيه، متغلغلًا في سيره، مغرورًا بقوته، ناصبًا لحبالته؛ اهتزت رواسيهم وتحركت ثوابتهم، وتنبهوا من سباتهم وندموا على ما سلف مِن سابق التفريط، وأحسوا أن ما أصاب اليوم بعضَهم فلا بد أن يمس يومًا جميعَهم، فصارت المسألة المصرية سببًا في إحياء الأخوة الدينية، كما بشرتْنا به الرسائلُ الواردة إلينا من فارس والهند وأفغانستان.
فلو تمادى الإنجليز في حرصهم، وحَمَلَهم الشره على غمط حقوق العثمانيين، وثبتت الدولة العثمانية في المدافعة والمطالبة، لَوُجد لها من المسلمين القادرين على نكاية الإنجليز مَنْ يقوم بنصرها؛ أداءً لما أوجب الله عليه.
وإنا بعد أداء الشكر لأولئك المؤمنين الصادقين، على ما أظهروا من حميتهم الدينية التي أشارت إليها رسائلهم؛ نرغب إليهم أن يحافظوا على وحدة العقيدة العامة وجامعة الشريعة الحقة، وأن يُصْغوا إلى أصوات الغيلان التي تناديهم في الليالي المظلمة، بما يُحاكي أصواتَ الإنس وإنما هي أصواتُ مردة الشياطين؛ يبتغون تفريق الكلمة، وتشتيت الشمل وإخماد الغيرة، ونسأل الله تعالى ثباتًا للمسلمين على أُصُول الاتحاد وقواعد الألفة، وأن لا يميل بهم الهوى إلى جعل الاختلاف في المسائل الثانوية سببًا في حل الجامعة الإِسلامية، التي قوامها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن لا يجعلوا هذا الخلاف ذريعة العدو إلى محق ملتهم وإفساد ولايتهم — والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.