الفصل الثالث والثمانون
نُشرت الدعوات وطُلبت الدول العظام لعقد مؤتمر في لندن بعد مفاوضات طويلة بين حكومتي فرنسا وإنجلترا، ماذا كان المؤتمر، وماذا نوت الحكومة الإِنجليزية بالدعوة إليه؟ وماذا كانت تقصد الدول من وجود نوابها فيه؟ وأَيَّة غاية كان يطلبها خريت السياسة اللورد بسمارك؟
انعقد المؤتمر ثم صار عقيمًا، وبقيت تلك المقاصد مكنونة في صدور أربابها، كانت حكومة إنجلترا تطمح للاستيلاء على مصر باسم أميرٍ مصريٍّ، وحالتْ دون مطمحها المصاعبُ أزمانًا، حتى سنحتْ لها الفرصة المشئومة بتشويه وجه الحركة العرابية، فتيسر لها بتلك الحركة إرضاءُ الدول، واستئذانُ الدولة العثمانية بالتداخل في توقيفها، فسهل لها دخول مصر على نية أن لا تخرج، وهل يمج الظمآن بارد الزلال مِن فِيهِ؟!
ظنت أنها ملكت أرض مصر، ووجدتْ عليها دَينًا ثقيلًا فرغبت تخفيفه؛ لأنها ترى ما ينفق من خزانة مصر إنما ينقص من خزانة إنجلترا، ولم تقصد بتخفيفه رحمة الفَلَّاحين، ولم يبعثْها عليه الشفقةُ على المصريين، وعميت بصيرةُ مَن ظن بحكومة إنجلترا قَصْد المرحمة في هذا أو في غيره من الأعمال.
قصدتْ تعميةَ الأمر على الدول؛ لتنال منهم تصديقًا على أعمالها، فيتسع لها المجال فيما بعد، وبدأتْ باستمالة فرنسا وعقدتْ معها اتفاقًا يوطن نفوس السياسيين على الرضاء بما تُريد، ثم أنشأ السير بارنج لائحة للمالية أثبت فيها عجز مصر عن أداء ديونها، إلا أن رجال الدول كانوا أحذق من أن ينخدعوا؛ لعلمهم أن وادي النيل أحوجُ إلى العدالة وحُسن الإدارة من تخفيف الدين.
لم يَخْفَ على السياسيين أن مصر لو سلمت إدارتها لحاكم نافذ الكلمة قوي العزيمة واسع الخبرة بأحوال البلاد، لوسعت قدرتها أداء ما عليها بل وما يزيد عليه — وإن كان يثقل على دولة تجارية.
قررت في الاتفاق الفرنسي إطالة مدة حلولها العسكري إلى ثلاث سنوات ونصف ثم تخرج، على شرط اتفاق جميع الدول على خروجها، فعلقتْه بما يشبه المُحال؛ لتسهل عليها المواربة، ولكن لم يذهب على رجال السياسة في سائر الدول أن بقاء إنجلترا في مصر لا يزيدها إلا خرابًا.
الحكومةُ الإِنجليزية في رجفة شديدة، وخِيفة من سوء العاقبة، إلا أنها على عادتها تُظهر الإقدامَ وتنطق بالحماس وتُوهِم أنها غنية عن العالمين، عمدت إلى الاستقلال بتدويخ مصر، وتقرير سلطتها فيها وإخماد فتنة السودان، وظنت أنها قادرة على ذلك، فجهزت القواد وعينت اللورد نورثبروك، أعدى أعداء المسلمين ومخرب بيوت الشرقيين، ليتولى العمل لدولته في القطر المصري، ولكن هيهات وهيهات.
- أولًا: إن الإنجليز — على عادتِهم المألوفة — إذا قصدوا الاستيلاء على قطر لا يصرحون بقصدهم حتى يتمكنوا فيه، ولا يبقى لهم منازع في الداخل ولا في الخارج، فلو فرضنا أن المصريين والدول أجمعين اتفقوا الآن وطلبوا من إنجلترا أن تُعلن بتملكها لمصر لامتنعت الحكومة الإِنجليزية وأظهرت العفة والقناعة، ولَظهر المستر جلادستون في دلوق الزهاد ولَصالح جميع الإنجليز من جميع الأحزاب، أستغفر الله لا نريد سوى إصلاح البلاد وتوفير خيراتها! وتحت هذا الحجاب يتصرفون تصرف الملاك ويختصون بالوظائف العُليا، ويديرون حكومة البلاد على رغبتهم، وينقلون ثروتها إلى جزيرتهم، ويمزقونها قطعًا يهبون منها ما لا يهمهم لأعداء البلاد، ليعينوهم على تذليلها واستعبادها.
- وثانيًا: إن حكومة الإنجليز مِن أضعف الحكومات في القوة العسكرية البرية، وأحد سلاحها التهديد، واكبر قوتها التهويل، ووضع الأمور الصغيرة تحت النظارات العميقة؛ لترهب بذلك كل جاهل، وتخيف كل غبي، لهذا لا تتمكن بدسائسها في قُطر إلا عند سُكُون أهاليه، فإذا نبذ الأهالي طاعتَها، وعارضوها في أعمالها، سترتْ ضعفها بترك البلاد لأهلها؛ فإن مقاومة الأهالي أشدُّ بأضعافٍ مضاعفة من القوة العسكرية المجتمعة في أماكن مخصوصة تحت قيادة رؤساء معينين، تنهزم بانهزامهم، وما جرى لحكومة إنجلترا مع الأفغانيين أعظمُ شاهد على ما نقول.
دخلت الحكومةُ الإِنجليزيةُ أرضَ الأفغان بستين ألف عسكريٍّ واستولتْ على المُدُن، وكاد قدومها يرسخ في البلاد، فلما قام الأهالي من كل صقع، والتحمت المقاتل في جميع أنحاء أفغانستان، عجز الستون ألفًا عن الوقوف موقف الدِّفَاع، واضطرت حكومة إنجلترا بعد تسلطها سنتين، وبعد صرف ثلاثين مليون جنيه إسترليني؛ أن تطلب الأمير عبد الرحمن خان من روسيا بعدما أقام عند الروسيين اثنتي عشرة سنة معززًا مكرمًا، وأن تقدم له أربعة ملايين من الجنيهات لينفقها في إدارة بلاده، وتركت له البلاد وولت.
حكومة الإنجليز إنما تخصع للضَّرُورَة وللضَّرُورَة أحكامٌ، فعلى قبائل العرب في مصر وشمائخها أن يتذكروا شهامتَهم العربية، وحميتهم الدينية، ويقتدوا بالأفغانيين؛ لينقذوا بلادهم من أيدي أعدائهم الأجانب، الذين لو تمكنوا في البلاد لَمحقوهم وأذلوهم، وليس من الفتنة أن ندعوهم إلى طلب الحقوق والدِّفَاع عن الدين والوطن كما يظن بعض المتطفلين على موائد السياسة، فإنما ننادي على صاحب البيت أن يُدافع عن حريمه وماله وشرفه، وأن يخرج مخالب عدوه من أحشائه، وهي سُنَّة جرى عليها دُعاة الحق في كل أُمة، وتاريخ أوروبا القديم والحديث، وتواريخ الأُمم الشرقية أولها وآخرها تنطق بصدق ما نقول.
وعلى المصريين عمومًا والفَلَّاحين خصوصًا أن يجمعوا أمرهم على أنْ يمنعوا الحكومة كل ما تطلب منهم، وأن يرفعوا أصواتَهم بنداءٍ واحدٍ قائلين: لا نطيع إلا حاكمًا وطنيًّا مسلمًا نافذَ الكلمة حازمَ الرأي، قادرًا على إدارة البلاد بقوة وطنية، وليستصرخوا في ذلك جميع الدول ويبرهنوا على قدرتهم، ويقيموا الأدلة على أن مصلحة الدائنين لا يُمكن حفظها إلا بإجابة طلبهم، فإن فعلوا هذا وجدوا لهم من الدول أنصارًا، بل ومن الجنس الإنجليزي نفسه!