الفصل السابع والثمانون
كثيرًا ما أتينا في جريدتنا على بيان مسالك الإنجليز في تملُّك الهند وتذليلهم لأهاليه، وذكرنا أن سيرة الحكومة الإِنجليزية في افتتاح البلاد لا تُشابه سِيَرَ الفاتحين الذين يزحفون بخيلهم ورجالهم على الأقطار، فيَقتلون ويُقتلون، حتى يتغلبوا على مَن يريدون، وقلنا: إن الإنجليز ملكوا نحو ثلث العالم بلا سفك دماء غزيرة، ولا صرف أموال وافرة، وإنما ملكوا ما ملكوا بسلاح الحيلة، يدخلون في كل بلد أُسُودًا ضارية، في جُلُود ضأن ثاغية! يعرضون أنفسهم في صورة خَدَمة صادقين، وأَمَنة ناصحين، طالبين للراحة، مُقَوِّمين للنظام!
نادينا مرارًا بأن الإنجليز إذا أرادوا التدخل في ملك للشرقيين، ورأوا أن القائم به رجل حاذق بصير، وأن وجوده في الملك يبطئ سيرهم إلى ما يقصدون؛ بادروا إلى التشويش عليه، فإما أن يُفسدوا عليه قلوب رعيته ويُثيروا عليه أحقادها، أو يغروا أحد أعضاء العائلة المالكة بالعصيان وطلب الملك ليجدوا في ذلك وسيلة للدُّخول في الأمر، أو يتفقوا مع الوزراء على خَلْع صاحب السلطة، ثم ينصبون بدله إما ضعيفًا أحمقَ، وإما صبيًّا لم يبلغ الرشد، إما من أبناء الملك أو أقاربه ليتمكنوا من بلوغ مقاصدهم تحت علمه، ويبلغوا غاياتهم باسمه، ويقطعوا المسافة الطويلة في مدة قصيرة، بلا ممانع ولا عائق، مع إصابتهم جزيل الأجر، على ما عملوا في بداية العمل.
هذا كما فعلوا من مدة غير بعيدة مع «راجا برودا»، خلعوه بدعوى باطلة، لَمَّا أحسوا فيه البصيرة والحزم، وأقاموا بدله ولدًا صغيرًا من عائلته، ثم انتصبوا له أوصياء، فوضعوا أيديَهم على جميع خزانته، وتولوا إدارة ممالكه، واستلموا قيادة عساكره، ولم يبق له إلا الاسم، يُذكر ولا يُشكر!
كل هذا تحت راية العدالة والإصلاح، وحفظ الراحة وتقرير النظام، ولم يساقوا إليه إلا بباعث المحبة والإخلاص (ولا يذكر هناك اسم التملك والاستيلاء). نعم، ولهم الحق في استبقاء اسم والسكوت عن آخر؛ فإن الأمراء الشرقيين لا يبالون بما دلت عليه الأسماء، وإنما يهمهم طنطنةُ الألفاظ وضخامة الألقاب!
إذا سُلب الأمير الشرقي ملكه وماله، وجُرد من جميع حقوقه، وبقي له لقبه ولواحق لقبه؛ فهو في سكرة من لذةِ ما بقي له، وفي ذهول عما سُلب منه، هذه خلة عرفها الإنجليز في كل أمير شرقي، فلِمَ لا يقرون أعينهم بحفظ هذه الأسماء، بعدما جُردت عن معانيها، وأي داعٍ يدعو رجال الإنجليز لإزعاج قلوب الأمراء بنزع هذه الألقاب؟
إن اللقب الضخم حصنٌ حصين، يُسجن فيه الأمير الشرقي، أو جُبٌّ عميق يلقَى فيه، وهو يظنه جنةً عرضُها السماوات والأرض، فليعشْ أمراء المشرق متمتعين بنعيم ألقابهم، وسعادةِ أسمائهم، ويكفيهم من المجد أن يُقال لهم بين خدمهم وخاصتهم، في داخل دوائرهم: «نواب صاحب»، «راجا صاحب»، «خديو صاحب»، «سلطان صاحب»، واخجلتاه! هذه الألقاب كانت تشير إلى ملك فسيح، ومجد شامخ، وشوكة قوية، وسطوة تخضع لها الشمم العوالي، فكيف طابتْ نفوس أمراء المشرق بقبولها عارية من كل شرف، لم يبق من معناها إلا سلطة على الخدم والحشم، وما هم فيها بأحرار، بل لا بد أن يوافقوا فيها رضاء الأجانب.
مِن أَدَقِّ رجال الحكومة الإِنجليزية في فن الحيلة، وأَمْهَرِهِمْ في صناعة الخدعة، وأطولهم باعًا في النفاق، وأحذقهم في اختراع الوسائل لسلب الأملاك من أربابها، وأشهرهم في عداوة المسلمين؛ ذلك اللورد المحترم «نورث بروك».
كان هذا الرجل البارعُ حاكمًا في الهند فأذاق أهاليه مُرَّ العذاب، في كئوس المحبة والوداد، كم خرب بيوتًا، وقلب عروشًا، وكم خفض رفيعًا، وأذل عزيزًا، وهو في جميع سيئاته يبكي بكاء الشفقة، ويسكب دموع المرحمة على الهنديين، ويقول: «إنني أول إنجليزي تهمه رفاهة أهل الهند، وإنني وحيدٌ بين الإنجليز بمحبة الهنود، والسعي فيما يعود عليهم بالصلاح والنجاح، وإنني أستغفر الله إن كنت قصرت في عمل يؤمل بهم إلى الفَلَّاح»، وينادي في الهنديين بقوله: «واأسفاه! إنكم اليوم ما عرفتموني، ولا أحطتم بما حواه ضميري، من إرادة الخير لكم.» هذا هو الكاهن الحاذق في وعظه (ودونه في النفاق عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين في الإِسلام).
إن الحكومة الإِنجليزية عرفتْ قدرَه في براعته ومعرفته بوجوه المكر، وخبرته بأحوال الشرقيين، وسعة علمه بكيفيات التصرف في عقولهم وأهوائهم، وطُرُق أخذهم من حيث لا يشعرون، واعترفتْ له حكومتُهُ بصدق الطَّوِيَّة في مُعاداة المسلمين؛ لأجل هذا قررت أنْ تبعثه إلى مصر، وعزمت على إرساله إليها مفوضًا من قبلها يفعل ما يشاء.
ولكن لا نظن حبالته الخداعية تصرع فطانة المصريين وتأخذ عقولهم، فإن تسنى له النجاح، ورضي المصريون على أنفسهم عار الذل، ووصمة الضيم، فلا يكون إلا باستعمال توفيق باشا آلة في جميع أعماله، يستخدمه لإدخال مصر في ملك الحكومة الإِنجليزية، يلقنه الأوامر السامية، ويُلهمه الإرادات السنية، لتذليل أهل بلاده وسوق المصريين لقتل إخوانهم وفتح البلاد الثَّائرة، وإقرار السلطة فيها للحكومة الإِنجليزية.
فإنْ تَمَّ له ما يُريد من تسكين الفِتَن وتقريب المصريين للرضاء بحكومة تنفر منها طباعُهُم عمد إلى خلع توفيق باشا بأية علة وطلب تولية ابنه عباس؛ لكونه ولدًا صغيرًا لم يبلغ الرشد، واستند في ذلك إلى الفرمانات السلطانية (يحترمونها إذا وافقت أغراضهم)، وجعل نوبار باشا ديوانًا له (الديوان وزير يعينه الإنجليز من طرفهم في الممالك التي تبقى في الهند تحت أسماء الأمراء الذين لا يُعرف فيهم الرُّشد ولا يجوز عزله إلا بأمر من الحكومة الإِنجليزية).
نوبار باشا لا يقصر في هذا العمل ولا يألو جهدًا في إبلاغه إلى نهايتِه، نوبار باشا رجلٌ لا هو مسلمٌ فيغار على دينه، ولا هو مصري فيحتمي على وطنه، ولا هو عربيٌّ فتأخذه النفرة على جنسه، وبهذا الطَّرِيق نال سلطةً في القطر المصريِّ مدة لا تنقص عن الباقي من عمره، ويكون في أَمَانٍ من العزل، تحت ظل الحكومة الإِنجليزية.
هذه مقاصده التي بلغتْنا من مصدر يوثَق به، ولا نظنه ينجح فيها؛ فإنَّ صلاح الأمر في مصر لا يقوم به إلا مَن هو أعرفُ بحال المصريين وأقربُ إليهم من «نورث بروك»، هذا اللورد يسلك في سيره على ما جَرَى عليه في الهند، إنا نذكر طرفًا من أعماله عبرة للمعتبرين.
إن «جيرت ستك» كان راجا على ممالك «جنبة» الواقعة في جنب «عنبر سر» من طرف «همالايا»، فلما مات هذا الملك تولى ابنه «سرسينك» وهو ولده من الملكة، ثم مات وتولى شقيقه «سوجيت سنك» على طبق قانون الوثنيين، فلما ذهب «نورث بروك» حاكمًا في الهند قصد إلى تنفيذ حكمه في تلك المملكة واستملاك أراضيها حسب المألوف بين أمثاله من رجال حكومته، فطلب من «سوجت سنك» أن يتنازل عن الملك لأخيه «قوبال سنك» وكان وليدًا من جارية، ولا يجوز في قوانين الوثنيين أن يتولى المُلك أبناء الإماء ما دام من أبناء الأحرار حيٌّ، فلما تَمَنَّعَ «سوجت سنك» من التنازُل؛ اعتمادًا على قانون باده، أنزل بحكم اللورد جبرًا بعدما ضربتْ زوجته التي كانت ملكة تلك البلاد (لكونها زوجة الملك) ونهب جميع ما كان في بيت الملك من الخزائن والتحف والجواهر الثمينة والمخلفات القديمة (أنتيكات) التي كان يتوارثها الملوك من أجيال طويلة (فإن عائلة الملك كانت من قدماء العائلات الملكية).
ثم نصب بدله «كوبال سنك»، وبعد مدة قصيرة عزل «كوبال سنك» ونصب ولده الصغير «سيام سنك» ليكون الأمرُ والنهيُ حسًّا ومعنًى بيد أمراء الإنجليز، وتحت تصرف الديوان الذي أقاموه من طرفهم! هذا مثالٌ لِمَا يطول عده من أعمال اللورد نورث بروك في الهند.
ثم إن «سوجت سنك» المخلوع ظن أن نورث بروك وحده هو الظالم، وأنه لو رفع أمره للحكومة العليا في لندن يجد لديها عدلًا ويصادف منها إنصافًا، فجاء من مدة ست نسوات وعرض حاله على الحكومة، فإذا القلوب متشابهة، والنُّفُوس متوافقة، والآراء متألبة على سلب الحقوق، والغلو في العدوان، وفي خلال هذه المدة أنفق كل ما كان عنده في المطالبة بحقه، والمرافعة مع ظالمه، حتى أصبح صفر اليدين، لا يملك قُوتَ يومه، ولا يجد منصفًا.
هذا الملك السيئ الحظ مع ما كان له من رفعة الشأن، وارتفاع نسبه في الملك إلى أجداده الأقدمين، من نحو ألف سنة؛ تراه الآن يتضور من الجوع في بلاد أوروبا رث الثياب حقيرًا ذليلًا، هذا الذي احترمه اللورد نورث بروك الذي تريد حكومة إنجلترا أن ترمي به مصر، وهذا هو الإصلاح الذي يقصد إجراءه فيها!
لكن رجاءنا في المسلمين، وأملنا في المصريين، وقوة إيماننا بوعود الله، وصدق النبأ عما تكنه الحوادث المصرية، وتألب الدول على معاكسة الحكومة الإِنجليزية، واضطرار الدولة العثمانية للدفاع عن مصر؛ كل هذا يبشرنا بخيبة هذا الغادر في قصده — والله لا يهدي كيد الخائنين.